ال «برايل»، ال «برايل ديسبلاي»، الحواسيب الناطقة، الهواتف الذكية والعصا البيضاء، كلها أمور سهّلت حياة الكفيف حول العالم فلم يعد في حاجة إلى وجود شخص معه طوال الوقت، وأصبح من خلال التكنولوجيا قادراً على التعلّم والعمل في مجالات كثيرة. لكن هذه التكنولوجيات لا تستطيع دمج ذوي الإعاقة البصرية في المجتمع ما لم توجد قوانين حديثة ومحيط يعترف بالمكفوفين عناصر قادرة على المساهمة بالإنتاج. يحتفل العالم كل عام بيوم «العصا البيضاء» (15 تشرين الأول- أكتوبر) وكذلك يفعل المكفوفون في لبنان، ولكنهم يعرفون أن هذه العصا وإن أجادوا استخدامها لن تؤمّن لهم استقلاليتهم، فمشكلاتهم أبعد من ذلك تبدأ بقانون قديم معظم بنوده غير مطبّقة، وتنتهي بمجتمع لا يتقبّلهم إلا من باب الشفقة. طرق تحتاج إلى عصا سحرية من الصعب على أي شخص في لبنان أن يسير على الأرصفة، فالرصيف في معظم المناطق، لا سيّما في العاصمة بيروت هو امتداد للطريق أو للمحال، فتجد عليه سيارات متوقفة أو بضاعة للبيع، هذا إذا لم نتكلّم عن الحفر ومكبات النفايات العشوائية. وإذا كان من الصعب على المبصر السير على الرصيف فكيف بالكفيف الذي يستخدم العصا البيضاء، يبدو أن الأمر تحتاج إلى عصا سحرية. هذا ما تقوله أمل إبراهيم مسؤولة «نادي المعين للإعاقة البصرية والجسدية» في «مركز المعين للدعم والتمكين» التابع لدار الأيتام الإسلامية، شارحة أن العصا البيضاء هي كما اسمها بيضاء يمكن رؤيتها في النهار والليل ولها هدفان، الأول مساعدة الكفيف على التنقّل وحده والثاني إعلام المبصر أن هذا الشخص كفيف. وتضيف: «في لبنان لا تحقق هذه العصا أي هدف وذلك لاستحالة السير على الطرق غير المؤهلة والثانية جهل الناس بهذه الأداة». وعلى رغم سهولة التعريف بهذه العصا تخبر إبراهيم قصصاً لمكفوفين داست السيارات على عصاهم، قائلة: «طبعاً لا يمكن الاعتماد على الطرق ولا على معرفة الناس بالعصا، الكفيف يعتمد على الحس الإنساني لبعضهم فقط». مشكلة توظيف ثلاثية الجوانب تعتبر إبراهيم أن مشكلة توظيف ذوي الإعاقة البصرية مشكلة ثلاثية الجوانب فهي مرتبطة بالقانون غير المطبّق والذي لم يحدّث منذ عام 2000. ويتعلّق الجانب الثاني بالمؤسسات التي لا تثق بالكفيف، والجانب الثالث بالكفيف نفسه الذي يفقد الأمل أحياناً ويكمل دراسته فقط لتمرير الوقت من دون طموح بسبب إحباطه من المجتمع، أو الذي يكون في أحيان أخرى بعيداً من الواقع فيدرس اختصاصاً من الصعب جداً العمل به. وتوضح أن معظم متخرجي الجامعات من ذوي الإعاقة البصرية يعودون في النهاية إلى العمل في المؤسسات المتخصصة بذوي الإعاقة، فهي الباب المفتوح أمامهم. ولكنها لا تستطيع استيعابهم جميعاً، هذا إضافة إلى حقهم في العمل ضمن اختصاصاتهم. وفي هذا الإطار تقول إبراهيم: «نحن لا نطلب شفقة من أحد نحن نستطيع إجراء امتحانات القبول في أي وظيفة، إذا نجحنا يجب أن نوظّف وإذا لم ننجح لن نطلب التوظيف»، مضيفة حتى الكومبيوتر الناطق «لا نطلب تأمينه نحن نؤمنه». وتتابع: «نحن واقعيون لا نطلب أن يكون الكفيف طبيباً مثلاً، لدينا كفاءات في مجال الترجمة وعلوم الكومبيوتر والبرمجة لا يستفاد منها. يجب أن يبدأ الأمر من المؤسسات الرسمية حتى تتشجع المؤسسات الخاصة». نحن لا نطلب أن تستخدم المؤسسات والمطاعم كتابة ال «برايل»، فلا نزال في مرحلة المطالبة بحقوقنا البسيطة جداً، منها ضمان حقنا في ما يتعلّق بتأمين العمل والمساعدات التي ينص عليها القانون للعاطلين من العمل، هذا ما تؤكّده إبراهيم لافتة إلى أنه «لا يحق لنا توطين رواتبنا، إذا أردنا فتح حساب في مصرف نحن في حاجة إلى شاهدين، نحن فاقدون للبصر وليس للإدراك». وتشرح أنهم في نادي المعين يدربون ذوي الإعاقة على استخدام العصا البيضاء، وعلى الشطرنج وعلى الرياضة، قائلة: «نساعدهم على الاندماج بالمجتمع ولكنه يغلق الأبواب في وجههم عن قصد أو عن جهل بطبيعة الإعاقة». لسنا خارقين أو بلا فائدة يعيش ربيع الجمال (31 سنة) حياته كما يحب، يذهب إلى عمله صباحاً، يزاول الرياضة، يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي مع أصحابه، ويتعرّف إلى أناس جدد. ربيع لم يولد كفيفاً ولكنه فقد بصره عندما بلغ السادسة عشرة من عمره. لم يشكّل هذا الأمر عائقاً أمامه، قرّر أن يكمل دراسته المتوسطة ومن ثم الثانوية والجامعية على رغم المعوقات. أنهى ربيع دراسته قبل أربع سنوات لتأتي الصدمة بعد تخرّجه من الجامعة مجازاً بالحقوق. وفي هذا الإطار، يقول ربيع: «درست وكنت أطمح أن أكون كاتب عدل، لكنني فوجئت بأن الكفيف لا يمكن أن يشغل هذه الوظيفة. قرّرت أن أتدرّج في مكتب للمحاماة وبقيت أربع سنوات وأنا أبحث عن مكتب يستقبل كفيفاً وطبعاً لم أجد. فعدت إلى المؤسسة التي أنتمي إليها، مؤسسة تعنى بذوي الإعاقة البصرية، ولكن هذه المرة عدت لأعمل مدرّباً للبرايل ومدرس رياضة لذوي الإعاقة البصرية». ربيع واحد من مئات الأشخاص من ذوي الإعاقة الذين لا يجدون عملاً، وإذا وجدوه يكون في المؤسسات التي تعنى بهذه الفئة. «نحنا لسنا خارقين ولكننا أيضاً لسنا بلا نفع، نحن واقعيون وكل ما نريده هو أن نأخذ حقنا فقط كمواطنين منتجين يمكن أن ننجح ويمكن أن نفشل» يعلّق، مضيفاً: «نحن نستطيع الاعتماد على أنفسنا ولكن إعاقتنا من المجتمع، أنا أعرف استخدام العصا البيضاء ولكن لا توجد طرق مجهزة، أنا أحمل شهادة جامعية ولكن أعمل في مجال آخر، كما ترين». ويضحك ربيع عندما نسأله عن حياته اليومية، لأنه «لا أريد التكلّم عن الصعوبات فأنا محاط بأصدقاء يسهلون علي التنقّل والحياة. لكن أريد التكلّم عن مواقف مضحكة مبكية، فالناس وعلى بساطة تعريف الكفيف كشخص فاقد حاسة البصر، يعاملونه كمتعدد الإعاقة، فيرفعون صوتهم عند الحديث معه كأنه أصمّ ويستغربون إذا صعد السلالم وكأنه مقعد». ويضيف: «أنا مثلاً أزاول الرياضة وأركض على الكورنيش مع دليل يربطني به حبل، وعلى رغم أنني أرتدي كنزة كتب عليها أنني كفيف يقف الناس أمامي ويعيقون حركتي، لا يعرفون ماذا يحصل، لا يعرفون أن الكفيف يمكن أن يزاول الرياضة». قانون قديم وغير مطبّق ينص القانون اللبناني على حماية حقوق الأشخاص من ذوي الإعاقة عموماً ومن ضمنهم بالطبع ذوي الإعاقة البصرية. ويضمن هذا القانون الخاص بالمعوقين الذي يحمل الرقم 220/2000، حقوق هذه الفئة من المواطنين على أصعدة عدة أبرزها المسكن والتعليم والعمل. وفي هذا الإطار يشير المحامي سامر حمدان إلى أنّ القانون وتحديداً المادة 68 منه بفقرتيها الأولى والثانية، شدد على أنّ للمعوق كما سائر أفراد المجتمع الحق في العمل والتوظيف، مضيفاً أن الدولة تلتزم مساعدة الأشخاص من ذوي الإعاقة على الدخول في سوق العمل ضمن مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص. ويشير إلى أن القانون يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ أكّد في مادته ال69 أنّ الإعاقة لا تشكّل في حد ذاتها حائلاً دون الترشّح لأي عمل أو وظيفة، وأنّ تأهيل المعوقين لدخول سوق العمل من موجبات المجلس الوطني للاستخدام. وشرح حمدان أنّ هذا القانون يكفل حق هذه الفئة من الأِشخاص في شكل صريح، إذ نصت المادة 73 على ضرورة التزام القطاع العام تخصيص وظائف للأشخاص من ذوي الإعاقة بنسبة 3 في المئة على الأقل من العدد الإجمالي للفئات والوظائف كلها. كما فرضت المادة 74 على القطاع الخاص في المؤسسات والشركات التي يزيد عدد الأجراء فيها على 30، استخدام أجير واحد من ذوي الإعاقة. واعتبر أنّ القانون جاء واضحاً وعادلاً، إلا أنّ الأزمة هي في التطبيق كحال مختلف القوانين الخاصة في لبنان، «إذ أنّه لا خلاف على الجانب النظري، حتى أنّ تعميماً صدر وتوقّف آنذاك من أجل فرض غرامات على الشركات التي لا تلتزم بتطبيق القانون المذكور أعلاه، تحت طائلة عدم إعطائها براءات ذمة من الضمان الاجتماعي». وينبّه إلى أنه «على رغم إيقاف العمل بالتعميم واقتصار مواد القانون على الجانب النظري، وفي ظل عدم توقيع لبنان على الاتفاقية الراعية لحقوق المعوقين، يجب العمل من خلال خطوات ثابتة وجديّة لتأكيد ضرورة احترام القانون وتنفيذه في بلد مثل بلدنا».