تدعو قيادات كثيرة الى قراءة الانتخابات النيابية ونتائجها، والمرحلة التي ستليها انطلاقاً من المعطيات الدولية والإقليمية التي رافقتها ومن ردود الفعل الخارجية الواسعة التي أعقبتها، من أجل تحديد وجهة سير الأحداث في المرحلة المقبلة، بعد تثبيت قوى 14 آذار مع المستقلين وضعيتها كأكثرية، في وقت كانت المعارضة تتهيأ للربح والحصول على الأكثرية وفق تقديرات قادتها الذين بلغت الثقة عندهم بالنصر حد التحضير للاحتفال به على مدى أيام تصل الى مدى الاسبوع الكامل، في المناطق اللبنانية كافة. وترى هذه القيادات في الاهتمام الدولي والعربي بإصدار مواقف التهنئة، بحصول الانتخابات وتوجيه الرسائل في هذا الصدد الى رئيس الجمهورية ميشال سليمان تحديداً، تعبيراً عن حرص هذه الدول على دعم الدولة اللبنانية بشخص الرئاسة الأولى وعلى استمرارية علاقتها بالمؤسسات، مثلما كانت قبل الانتخابات، وفي اعتقاد هذه القيادات أن حرص معظم هذه الدول والمرجعيات التي هنأت سليمان، على ان تتصل أيضاً بعدد من قادة قوى 14 آذار وتهنئتها بالفوز، لا سيما زعيم «تيار المستقبل» النائب سعد الحريري الذي حصد أكبر كتلة نيابية، دليل الى أن بقاء الأكثرية على حالها يتيح لهذه الدول الإبقاء على صلتها مع الدولة اللبنانية، على الوتيرة إياها، خلافاً لما كان يمكن أن تكون عليه الحال لو فازت قوى 8 آذار بالأكثرية. وتتوقف هذه القيادات أمام 3 نماذج معبرة من ردود الفعل هي: إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما أنه يتمنى «استكمال مسيرة الاستقرار والسيادة والاستقلال»، وأن «تحترموا حقوق الأقليات» وأن تسود «روح القبول بحلول وسط». وهذا يعني أن الإدارة الأميركية الجديدة تشجع على التسويات اللبنانية الداخلية. أما الموقف الثاني اللافت، فهو تأكيد مجلس الوزراء السعودي «تقديره لمواقف الأطراف المتنافسة»، بعد إعلان النتائج. وهو موقف صدر نتيجة استحسان الرياض إعلان الحريري مد اليد وكلام جنبلاط عن وجوب التلاقي والحوار، وتشديد رئيس البرلمان نبيه بري على الحوار والتوحّد وامتداحه موقفي الحريري وجنبلاط (الموقف السعودي صدر قبل خطاب الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصر الله). والموقف الثالث ذو الدلالة كان إعلان المستشارة في الرئاسة السورية بثينة شعبان ارتياحها لمجريات العملية الانتخابية وتشجيع دمشق الروح التصالحية. وسبقت هذا الموقف العلني أصداء وصلت الى لبنان عن هذه الأجواء وعدم انزعاج دمشق من النتائج على رغم أن عدداً من حلفائها سقطوا في مواجهة قوى 14 آذار. وسبق وتبع هذا الموقف اتصال من الرئيس بشار الأسد بكل من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يوم الاثنين، الذي قيل إن هدفه التأكيد للرياض أن دمشق وفت بالتزامها دعم إجراء الانتخابات من دون تدخل، كما تأكيد التفاهم السعودي - السوري على دعم التوافق بين اللبنانيين (استناداً الى اتفاق الطائف) والاستقرار، وأرفق الأسد هذا الاتصال باتصالات مع قادة دول أوروبية وعربية، إضافة الى ان السوريين بعثوا برسائل متعددة الى واشنطن بالمعنى نفسه وعلى مستويات عدة، كما قالت مصادر لبنانية واسعة الاطلاع على الاتصالات الخارجية في ضوء الانتخابات. وفي معلومات قيادات لبنانية كثيرة أن مرور الانتخابات النيابية في لبنان بسلام كان امتحاناً ومحطة، من دول كثيرة (ما عدا فرنسا) في علاقتها الانفتاحية مع سورية، لا سيما الولاياتالمتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية وبعض الدول الأوروبية، إذ كانت هذه الدول تنتظر مدى التزام دمشق بعدم التدخل من جهة وتسهيل إجرائها من جهة ثانية، من أجل أن تبني خطوات الحوار المقبلة عليها. ويقول مصدر بارز في الأكثرية أن سورية تعاطت بإيجابية مع النتائج، بعد أن كانت دمشقوطهران تتوقعان فوز حلفائهما المباشرين في اتصالاتهما مع بعض الدول الغربية. ذهبت الأمور على هذا الصعيد الى حد دعوة وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي خلال زيارته فرنسا الأسبوع الماضي، كبار المسؤولين الفرنسيين الى التهيؤ للتعاطي الإيجابي مع انتصار المعارضة وأن باريس أكدت أنها مستعدة للتعاطي الإيجابي مع نتيجة كهذه. وسبب التسليم السوري السريع بالنتائج أن ما جرى بغض النظر عن عدم ربح حلفاء دمشق الأكثرية، هو أن الانتخابات نتاج توافق سوري - سعودي تحرص على استكماله وتطويره، في ظل سياسة الانفتاح المتبادلة بينها وبين الرياض وبينها وبين واشنطن. ويدعو المصدر البارز الى عدم إغفال نية سورية استكمال محادثاتها مع إسرائيل عبر تركيا وتطلعها الى رعاية أميركية لهذه المفاوضات على رغم عدم تعليقها آمالاً كبيرة على نتائجها. ويرى المصدر نفسه أن استكمال هذا التوافق السعودي - السوري بدأ يخطو خطوات جديدة، قبل الانتخابات مع توقع تسارعه بعدها على مستويات سياسية عدة، بحيث يمكن أن ينعكس في لبنان، بالتوازي مع توسعه على الصعيد العربي وسط معطيات عن إمكان تحسن في العلاقة المصرية - السورية أيضاً، من مؤشراته زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل القاهرة قبل يومين. وترمي المعادلات الإقليمية الحالية بثقلها على الحسابات المحلية من زاوية الاستحقاقات المقبلة، بما فيها موضوع رئاسة الحكومة المقبلة التي يرجح الوسط السياسي أن تكون معقودة لزعيم «تيار المستقبل» النائب سعد الحريري الذي كان أجل توليه المنصب بعد اتفاق الدوحة العام الماضي، الى ما بعد الانتخابات. وفي استكشاف مدى ملاءمة تولي الحريري رئاسة الحكومة، (يعتبر أن القرار يعود له وحده) يقول بعض المحيطين به إن الظروف الراهنة قد تكون مناسبة له الآن، لتحقيق إنجازات طموحة ومثمرة على صعيد بناء الدولة والنهوض بالاقتصاد والتقدم على صعيد الوفاق السياسي، أكثر من الظروف التي رافقت ترؤس والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وفي رأي هؤلاء المحيطين أن الحريري بداية لا يواجه مثلما واجه والده ظروف العرقلة، التي مارستها الوصاية السورية على الوضع اللبناني، لمشاريعه ولتوجهاته بالتعاون مع رئيس الجمهورية ميشال سليمان الذي يشكل وجوده أيضاً عنصراً إضافياً مختلفاً عن ظروف تعامل الرئاسة اللبنانية مع والده، لأن هذه الرئاسة كانت مواقفها وردود فعلها في السابق مرتبطة بأجندة دمشق التي ارتكزت سياستها السابقة على أمور عدة كانت عرقلة جهود الحريري الأب أساسية فيها. ويذهب بعض المحيطين بالحريري الى حد القول إنه «طالما هناك توافق عام على ترك الموضوع الخلافي الرئيس مع «حزب الله» الذي هو سلاح المقاومة للحوار الوطني الذي تلعب الظروف الإقليمية دوراً رئيساً في تحديد مصيره، وعدم جعله موضوع تنازع على رغم أنه يبقى موضوع خلاف، فإن بإمكان الحريري بما يتمتع به من صفات الإقدام والجرأة التطرق الى عدد من العناوين المتعلقة بإدارة الدولة، والتي هي عناوين خلافية مع المعارضة، للوصول الى توافق حولها»، وسألت الأوساط المحيطة بالحريري: «ماذا يمنع التطرق الى مطالب تطرحها المعارضة في شؤون الدولة وإدارتها وطرح مبادرات جريئة في هذا المجال مثل موضوع إلغاء المجالس والصناديق والاتفاق على خطوات إصلاحية تشجع استثمار أموال اللبنانيين الموجودة في الخارج». التوافق لا يشمل ايران؟ ويعتبر أصحاب هذا الرأي أن الحريري قادر على استثمار الدعم الخارجي الإجماعي بعد صدور النتائج، للبنان من أجل مواصلة الدول المعنية تقديم الدعم الملموس للدولة والجيش من أجل أن يتمكنا من تثبيت السيادة والاستقرار، «فالجيش أثبت كفاءة لكن تنقصه الوسائل التي تمكنه وتعزز قوته وقدراته مع القوى الأمنية الأخرى، فهو كان خلال الفترة الماضية بلا أسنان وإمكانات... والتحدي يكمن في وجوب التفاهم سياسياً مع «حزب الله» على كيفية الملاءمة بين ترك موضوع السلاح للحوار، وبين إدارة المرحلة اللاحقة بالاتفاق على دور الدولة وأولوية مصلحتها وعلى كيفية التعاطي مع أي احتمال لأي مواجهة عسكرية ممكنة بفعل الظروف الإقليمية الدولية، وعلى سبل التعاطي في حال ذهبت الأمور في المنحى التفاوضي بين الغرب وإيران». إلا أن مصدراً قيادياً في قوى 14 آذار يعتبر أن تولي الحريري رئاسة الحكومة مسألة أكثر من طبيعية في ظروف التوافق السعودي - السوري. وهو مثل غيره أخذ يتأقلم منذ مدة مع انطلاقة هذا التوافق بحديثه عن تطبيق اتفاق الطائف في ما يخص العلاقة اللبنانية - السورية. كما أن الموضوع الأهم بالنسبة إليه أي اغتيال والده، أخذ طريقه الى المحكمة الدولية وأن في إمكانه تطبيق مبدأ الفصل بين السعي نحو العدالة مع المحكمة وبين العلاقة مع دمشق. إلا أن المصدر يدعو الى مقاربة هذا التوجه مع الأخذ في الاعتبار عدد من المسائل منها: 1 - يجب محاذرة القبول بمنطق التسليم ببقاء السلاح في يد «حزب الله» على صحة إحالته الى الحوار، في مقابل أن يتولى الحريري التعاطي بالاقتصاد وقضايا ادارة الدولة، للعودة الى المعادلة التي كانت سائدة أيام الرئيس رفيق الحريري والإدارة السورية للحكم. ويرى المصدر القيادي أن «حزب الله» ومعه المعارضة، لن يكتفي بذلك وسيدلي بدلوه بكل شيء. 2 - أجواء التوافق الإقليمي الدولي المؤاتية لتولي الحريري الرئاسة الثالثة في لبنان، قد لا تشمل إيران حتى الآن، على رغم التوجه نحو حوار أميركي - إيراني بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي ستلعب نتيجتها دوراً في رسم سياسة طهران، حيال لبنان.