على رغم الدراسات الكثيرة عن رواية غابرييل غارسيا ماركيز «مئة عام من العزلة»، وعلى رغم قيمتها الإبداعية، فإنني أعتقد أن روايته «الحب في زمن الكوليرا»، لا تقل أهمية عنها. فعلى رغم أنّها تدور حول علاقة حب دامتْ لأكثر من خمسين سنة، ولم يتم اتصال طرفيها إلاّ بعد أنْ تعديا سن السبعين، فإنّ ماركيز ضفّر ذلك الحب بتاريخ منطقة الكاريبي، بخاصة، وشمل هذا «التأريخ الروائي» ضحايا مرض الكوليرا، وضحايا الحروب الأهلية والصراعات السياسية. في أول سطر في الرواية التي ترجمها إلى العربية صالح علماني عزف غارسيا ماركيز على وتر «الذاكرة» فكتب عن بطله: «لا مناص. فرائحة اللوز المُر كانت تذكره بمصير الغراميات غير المواتية». وفي موضع آخر كتب: «مَن لا ذاكرة له، فليصنع له ذاكرة»، أي أنّ المبدع- سواء بقصد أو بعفوية- اهتمّ بإبراز أهمية الذاكرة التي تكاد تكون «الشريك الثالث»، فى علاقة الحب شديد التميز والتفرد، بجانب الشريك الرابع الذي تزوّج الحبيبة. وعلى القارىء أنْ ينتبه لذلك الثالوث؛ الذي جمع بين شابيْن وفتاة، فى علاقة شائكة، مُعقدة وبديعة في الوقت نفسه، مِن خلال تفاصيل رحلة الحياة، إلى أنْ مات الزوج، فانتعشتْ علاقة الحب التي وأدها والد الفتاة، عندما انحاز إلى أحد الشابيْن ورفض الآخر. الزوج طبيب مشهور، وهو الذى تولى علاج المصابين بالكوليرا، وكانت بداية تعرف القارئ عليه وهو يتذكر أنه احتفل بعيد ميلاده الثمانين منذ عام، والحروب الطويلة ضد الموت وخاطب نفسه قائلاً: «سيكون لديّ متسع للراحة عندما أموت»، ويتذكر أنّ الوباء حصد أرواح رُبع السكان على الأقل، ولذلك انتشرتْ (مقابر الكوليرا). وعلى رغم همومه بعلاج المرضى فإنه عاشق لتربية الطيور، ووصل ولعه بها لدرجة أنْ نجح في تدريب الببغاء على التحدث باللغة الفرنسية. أما الشاب الذي رفضه والد الفتاة واسمه «فلورنتينو»، فلم يتوقف عن التفكير في «عشقه الأبدي» واسمها «فيرمينا»، على رغم مرور51 سنة منذ أنْ رآها للمرة الأولى. وهو بدأ حياته بداية متواضعة، فعشق السفر عبر البحار؛ وشغل وظيفة عامل تلغراف. وعلى رغم ذلك كانت له محاولات فى التأليف الموسيقي، فكتب مقطوعة أطلق عليها «فالس الربة المتوّجة»، وفي ذهنه حبيبته «فيرمينا»؛ وكان يقول عن نفسه: «أنا لستُ سوى عاشق بائس». وعندما قرر الزواج من حبيبته، فإن أباها؛ نظراً إلى أنه فضّل الطبيب الثري المشهور، طلب من العاشق الفقير أنْ يبتعد مِن طريق ابنته، فلما ألحّ قال له: «لا تجبرني على قتلك»، فإذا بالفتى يفتح صدره، كأنه ملهم بوحي من الروح القدس، وقال: «هيا أطلق رصاصك»، فأخذ الأب ابنته وترك المنطقة كلها. ونظراً إلى أنّ عمال التلغراف كانوا متعاطفين مع قصة حب زميلهم، لذلك تتبعوا رحلة الأب وابنته (من خلال رسائله الخاصة بتجارته) وأخبروه بتحركاتهما، ولذلك لم يفقد خيط التواصل لمعرفة أخبار الفتاة التي عشقها. وحين علم أنّ فتاته ستتزوج من طبيب نبيل وثري ومتعلم في أوروبا وذي شهرة، «لم تكن هناك قوة قادرة على إخراجه من مذلته»، فكان «يمضي معظم الليل ساهراً متخيلاً أنه يسمع صوت حبيبته في نسيم النهر البارد، راعياً الوحدة بذكرياته»، وكان ينظر إلى قطرات المطر، ليجدها «مبللة بندى الموت». بعد رحلة التجوال عبر البحار، فإنّ عمه «ليون»، صاحب شركة للسفن، ألحقه بوظيفة في الشركة ذاتها. وكان هذا العم أقرب إلى الفيلسوف، فإذا حدّثه أحد عن ثروته كان يقول: «أنا فقيرٌ يملك مالاً». ترقى «فلورنتينو»، حتى وصل إلى منصب نائب رئيس الشركة، ونظراً لهوسه بالنساء، كتعويض عن فقد الحب، فقد ضبطه عمه مع فتاة، ولما رأى خجلها وارتباكها قال لها: «أقسم بشرفي أنني لم أر وجهك»، وبعد أن تعدى سن المئة وشعر بقرب نهايته، تصدى لمحاولات انتقال الملاحة النهرية لرجال الأعمال المرتبطين بالاحتكارات الأوروبية، وسجّل رسمياً أنّ ابن أخيه هو الوارث الوحيد للشركة، وقال وهو يشعر بالندم: «لقد غنيتُ في جنازات كثيرة باستثناء جنازتي». رسم ماركيز شخصية الفتاة التي تزوّجتْ مِن الطبيب، وستعمر حتى بلوغ الثمانين، ببراعة فائقة، حيث جسّد صراعها النفسي بين وفائها لزوجها الراحل، وقبول دعوة حبيبها «فلورنتينو» لمواصلة الحياة سوياً. وأظهر ماركيز قوة شخصيتها منذ البداية حيث رفضت طقس الاعتراف الكنسي المألوف. وكان منطقها هو: هل الأسقف هو الرب؟ وعندما حاولتْ راهبة (بتكليف من راعي الكنيسة) إقناعها بالزواج من الطبيب، لأنه هو الذي يحبها بالفعل، قالت لها: كيف تقبلين القيام بمهمة كهذه، بينما أنتِ ترين في الحب خطيئة؟ فهدّدتها الراهبة قائلة: خيرٌ لكِ أنْ تتفاهمي معي؛ فقد يجيء نيافة الأسقف وسيكون الحال معه مختلفاً. فلم تهتز وقالت: فليأتِ. وبعد الزواج اكتشف زوجها أنها ترفض الذهاب إلى الكنيسة، ولا تصلي حتى في البيت (صلاة العشاء قبل النوم) وعندما ألحّ عليها قالت: أفضل التفاهم مع الرب مباشرة. وعندما اكتشفتْ خيانة زوجها، أدركتْ أنه لم يسقط في الخطيئة (فقط) مع امرأة غيرها وإنما هو مُصر على التمادي، حيث رفض مساعدة كاهن الاعتراف. وعندما سألها الكاهن إذا ما كانت غير وفية لزوجها؛ تجاهلته ولم ترد. ومِن يومها رفضتْ طقس الاعتراف. بعد وفاة الزوج تجدّد الأمل داخل قلب «فلورنتينو»، فواصل رسائله لعشيقة روحه. وكانت البداية أنْ سمحتْ له بزيارتها فى منزلها؛ «ورأى كل منهما الآخر: عجوزان يترصدهما الموت»؛ سألته عن السفن النهرية، ولم تكن تعرف أنه صاحبها، ولم تعرف النهر مِن قبل. كانت رسائله عبارة عن تأملات فلسفية حول الحياة والموت ومعنى الوجود، فقالت له: «إنّ رسائلك الأخيرة كانت ذات نفع كبير لي»، فقال: «لا يمكنك تصوّر مدى سعادتي بسماع ذلك». كان ابن المرأة وابنتها يزوران أمهما، ورأيا «فلورنتينو». وبمرور الوقت توطدتْ العلاقة بين الجميع، فطلب «فلورنتينو» مِن الابن الموافقة على الزواج مِن أمه. وافق الابن بينما رفضت الابنة. ولكنه أصر على استعادة الماضي، لأنه لا يتحمل «خواء الروح»، وعلى رغم ذلك كان يعذبه سؤال: «ما الذي سيقدمه المستقبل لشيخ مثله: أعرج ومحني الظهر، لامرأة لا تتوق لسعادة سوى الموت؟». نشرتْ بعض صحف الإثارة فضائح الزوج الراحل، فدخلتْ المرأة في حال اكتئاب لدرجة الزهد في الدنيا. أرسل حبيبها «فلورنتينو» مقالات عدة إلى الصحيفة دافع فيها عن الزوج الراحل. أعادتْ هذه المقالات الروح للمرأة، فاستقبلتْ حبيبها بحيوية. تمَّ إعلان الخطوبة بين العاشقيْن العجوزيْن. وتجدّدتْ زيارة «فلورنتينو» لمنزل خطيبته حتى ساعة متأخرة من الليل، ودعاها لرحلة بالسفينة، وعلى سطحها ليلاً؛ «كان قلبان وحدهما في الشرفة المظلمة يعيشان إيقاع أنفاس السفينة»، وفوجئ بها تبكي، فسألها: «هل تودين البقاء وحدك؟»، قالت: «لو كنتُ أريد ذلك لما طلبتُ منك الدخول إلى غرفتي». مدّ أصابعه في الظلام وبحث باللمس عن يدها فوجدها بانتظاره: «يدان هرمتان معروقتان». وعندما حاول تقبيلها أوقفته وقالت: «إنّ لي رائحة عجوز». بعد يوميْن بحثتْ هي عن يده في الظلام. لم تجدها في انتظارها كما تمنتْ. أمسكتْ بها بغتة. اقتحمها ألمُ أذنها القديم والدائم. وكانت تعلم أنّ إخباره بألمها سيُخفف عنها ولكنها لم تفعل كي لا تقلقه. وعند باب غرفتها حاول تقبيلها فمنحته خدّها. ثم تلقفته بشفتيها وضمّته برعشة حاولتْ خنقها وقالت: كم أنا مجنونة في السفن. تذكر بيتاً من الشعر؛ «إنّ الحب يصبح أعظم وأنبل في المحن»، فلما سمعته تبادلا القبلات. وعندما دعاها للسرير قالت: «إذا كنا سنمارس الحماقات فلنفعل كطاعنيْن في السن». ولم يفترقا عن بعضهما لحظة خلال الأيام التالية. وكان قبطان السفينة يرسل لهما وردة كل صباح. وعندما اقتربتْ السفينة من ميناء النزول، كاد الخجل أنْ يقتلها خشية أنْ يتعرّف أحدٌ عليها، لأنها تزوّجتْ بعد وفاة زوجها بقليل. ورأى القبطان أنّ بعض السفن ترفع «راية الوباء الصفراء» وأنّ المسافرين يهربون مِن طاعون الكوليرا. كانت السفن تتجوّل من ميناء لآخر حتى تجد المرفأ الآمن. فكان الحل أنْ ترجع السفينة لتقطع الرحلة مِن جديد. فسأله القبطان: إلى متى تظن بأننا سنستطيع الاستمرار في هذا الذهاب والإياب؟ قال العاشق العجوز: مدى الحياة. وقال: إنّ الحب يكون أكثر زخماً كلما اقترب من الموت.