اعتاد العالم من كوريا الشمالية سلوك الاستفزاز المقترن بالابتزاز، لنيل مساعدات أكثر من الغذاء والطاقة، وحاولت القوى الإقليمية والدولية التعايش مع هذه الحقيقة المرة على أمل حدوث تحول من شأنه تغيير سلوكها. غير أن محاولاتها كانت تصطدم دائماً بواقع التعامل مع نظام أدمن الانعزال عن محيطه، وأصبح أشبه بمريض تفتك به الأمراض والفيروسات، لكنه يرفض فتح نوافذ غرفته لتجديد الهواء، ظناً أن ذلك سيتسبب في وفاته. مع هذا فإن آخر حلقات كوريا الشمالية على مضمار الاستفزاز كانت زائدة عن الحد ومبالغاً فيها، فالحكومة الشيوعية في بيونغيانغ أدارت ظهرها للمطالب العالمية الداعية إياها لوقف تجاربها النووية والصاروخية. ونفذت ثاني تجاربها النووية في الخامس والعشرين من أيار (مايو) المنصرم، وألحقتها بسلسلة متتابعة من التجارب الصاروخية، والأعجب أنها وجّهت تهديدات صريحة ومباشرة لكوريا الجنوبية بمهاجمتها عسكرياً، عقاباً لها على انضمامها للمبادرة الأميركية لتفتيش السفن بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل ومكوناتها. ولم تكن تهديدات الشطر الشمالي وحدها الباعثة على الدهشة، وإنما أيضا رد الفعل الدولي المتخاذل والضعيف في مواجهتها، وبدا أن الكبار في مجلس الأمن تمزقهم الحيرة والخلافات والانقسامات حول التصرف مع كوريا الشمالية، التي باتت النموذج الذي تتطلع إليه الدول المطحونة، خشية سحقها، ناظرة الى بيونغيانغ باعجإب لتحديها أميركا والبلدان الأوروبية. ومما يضاعف الدهشة أن الرد العالمي على التحدي الكوري الشمالي لم يخرج عن أمرين، الأول إصدار بيانات تنديد وشجب بالتجارب النووية والصاروخية، والثاني بحث تشديد العقوبات المفروضة على الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية، مع أن الأممالمتحدة ومعها الولاياتالمتحدة والدول الحليفة تدرك أن سنوات طويلة من العقوبات على كوريا الشمالية لم تحقق شيئاً يذكر. فقد تعودت بيونغيانغ على العقوبات، وحتى عند تشديدها فإنها ستكون عديمة المفعول، لأننا مقابل بلد يعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية لا حصر لها، وتعوّد أهله العيش على أقل القليل، والنظام يحصل على ما يلزمه بأساليب غير مشروعة تشبه إلى حد بعيد طرق المافيا. هنا لابد من التساؤل عن السر الذي يجعل من الخيارات المطروحة أمام المجتمع الدولي محدودة للغاية وتكاد تنحصر في الجانبين المشار إليهما أعلاه؟ الأدهى أن الأسرة الدولية تواجه استفزازات بيونغيانغ المتواصلة بتأكيد أن الخيار السلمي هو سبيلها الوحيد لتسوية الأزمة النووية الكورية. الأسباب تعزى إلى أن القوى الإقليمية في شمال شرق آسيا - كوريا الجنوبية واليابان والصين - صاحبة قول فصل في ما يخص معالجة الأزمة النووية الكورية، ولديها من أوراق الضغط على واشنطن الكثير، حتى في عز تفضيل الرئيس الأميركي السابق جورج بوش منهج العصا عند علاج المشكلات الدولية. فهذه القوى متفقة في ما بينها على الاستبعاد التام للخيار العسكري، حتى مع سماع بعض الأصوات في اليابان المسالمة مثلا تطالب بتوجيه ضربة وقائية للمنشآت النووية الكورية الشمالية، كذلك فإن الصين بوضعها الاقتصادي والمالي والعسكري الراهن على الساحة الدولية لن تقبل بوجود قوات أميركية على حدودها المشتركة مع كوريا الشمالية، إذا قررت أميركا غزو الشطر الشمالي. ويستوعب الجميع حقيقة أن العالم لن يحتمل اندلاع حرب في هذه المنطقة الحيوية للتجارة العالمية، وفي وقت يئن فيه الاقتصاد العالمي تحت وطأة أزمة عاصفة، ويحتاج إلى قوة الدفع الموجودة لدى اليابان ثاني أكبر قوة اقتصادية في عالمنا المعاصر، والصين رابع قوة اقتصادية، وكوريا الجنوبية القوة الثالثة عشرة. ويخاف الكثيرون من المفاجآت غير المنظورة داخل ترسانة الأسلحة غير التقليدية لدى بيونغ يانغ، وما قد يسفر عنها من دمار لا يعلم أحد مداه وطوله. كما أن الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما يتبع سياسة تخاصم لغة القوة، لا سيما أنه يسعى إلى تخليص بلاده من إرث ثماني سنوات من أخطاء سياسات بوش غير الموفقة. لذلك لم يكن غريباً أن يحرص البيت الأبيض على تأكيد أن أوباما لن يتنازل عن النهج السلمي مع كوريا الشمالية، وما يصدر من تصريحات قد تبدو متشددة من طرف بعض المسؤولين الأميركيين، مثل وزير الدفاع، ليست سوى محاولة لبث الطمأنينة في نفوس الحلفاء في سول وطوكيو. الحصيلة النهائية أن العالم لن يجد حلاً سريعاً لمشكلة كوريا الشمالية في ظل خياراته المحدودة اللهم إلا إذا حدثت المعجزة وتغير النظام القائم في بيونغيانغ. * كاتب مصري.