مع نشر رسالة «أمير الجماعة الاسلامية المقاتلة» في ليبيا في صحيفة «أويا» الصادرة في طرابلس حول موقف الجماعة من الحوار والمصالحة مع النظام، تنتهي التكهنات حول صدقية هذا الحوار وما يتناقله الإعلام من طرف واحد حول هذه المسألة. واللافت أن الرسالة اختصرت رحلة الحوار التي دامت أكثر من سنتين والتي يبدو أن الجماعة خلالها قد حزمت أمرها في التعهد بنبذ اسلوب المواجهة المسلحة مع النظام ومراجعة أدبياتها وسياساتها السابقة. ومع تحفظ البعض على طريقة او اسلوب هذه المحاورات كونها تجرى في السجون، ووجود شبهة الإكراه والتشكيك في النتائج ونسبتها ومدى القناعة في نسبتها الى قيادة الجماعة وأفرادها، الا أنني أعتقد أن قناعات حقيقية تكونت لدى هؤلاء الاخوة ومنذ فترة ليست بالقصيرة، ولأسباب نحتاج لمعرفتها الى تسليط الضوء على تاريخ الجماعة منذ التأسيس وحتى الانتهاء. وبالعودة الى جذور تأسيس الجماعة والظروف التي أحاطت بها، وظروف المرحلة التي عاشتها ليبيا (النظام) و(الدولة) يجب عدم إغفال كثير من المقدمات التي أدت الى هذه النتائج. تكونت «الجماعة الاسلامية الليبية المقاتلة» في أوائل وأواسط الثمانينات من القرن الماضي، وهي مرحلة (تغوّل) النظام السياسي، فلم يكن من المتاح إيجاد أي بدائل أو وسائل وطرق للعمل السلمي وممارسة نشاط معلن، فطبيعي أن تنشأ في هذه الأجواء التنظيمات السرية والعسكرية، فنشأت الجماعة واعتمدت فكرة الإعداد المسلح لمواجهة النظام ومحاولة إسقاطه، إما من خلال اختراق الجيش أو من خلال حركة تمرد عسكري شامل يسعى الى الدعم الشعبي لإنجاح التغيير، ولم تؤمن الجماعة بالمواجهات الصغيرة المتفرقة والمحدودة. ولتحقيق هذه الاستراتيجية اعتمدت الجماعة خطة للإعداد – طويلة المدى – وعلى مراحل زمنية، الى جانب اعتمادها خطة للطوارئ يمكن العمل – اضطرارياً - من خلالها حال اكتشاف النظام خلايا الجماعة وشبكاتها، وهو ما حدث فعلاً بعد ذلك. وباكتشاف النظام تنظيم الجماعة وسعيه بكل قوة الى القضاء عليها، اضطرت الجماعة الى الاعلان عن نفسها ومواجهة النظام بحسب خطة الطوارئ وليس بحسب الخطة الاصلية، فقد فرض النظام على الجماعة زمان المواجهة ومكانها، وبإعلان الجماعة انتشرت المواجهات المسلحة في مدن ليبيا كلها، وواجه النظام خلالها عمليات نوعية لم يواجهها من قبل، كما واجهت الجماعة وبعد ثلاث سنوات من العمليات صعوبات كبرى في الاستمرارية مع نقص الدعم وعدم تحرك عموم الشعب للمساندة. ويحسب للجماعة خلال السنوات الثلاث أنها لم تستخدم الاساليب العشوائية التي يتعدى ضررها النظام الى عموم الناس، كالسيارات المفخخة والتفجيرات في الاماكن العامة وتخريب الممتلكات العامة والخاصة، وكذلك تفريقها بين المدنيين والعسكريين في وقت بلغت حدة المواجهات صورة الحرب المفتوحة، إذ شارك الطيران الحربي في قصف مواقع الجماعة في الجبل الاخضر. وفي باب الأحكام، أعلنت الجماعة أنها تقاتل النظام لإقامة الشريعة الاسلامية ولرفع المظالم، وواجهت النظام باعتبار أحكام الطائفة الممتنعة عن إقامة الشرائع كما ورد في المراجع الفقهية، ولم تحكم بكفر وردة أعيان النظام باعتبار عوارض الجهل والاكراه والتأويل. هذا على مستوى عمل الجماعة – سابقاً - داخلياً، أما خارجياً فمع اعتقال أعضاء الجماعة وقياداتها في دول عدة وتسليمهم بالتالي الى النظام الليبي، إلا أن الجماعة احتملت الأذى ورفضت المواجهات مع هذه الدول لأنها ليست ساحة صراعها. ومع أن موقف الجماعة كما ورد في أدبياتها هو موقف النصرة لحركات المقاومة في العالم الإسلامي التي تواجه عدواناً أو احتلالاً، الا أن الجماعة رفضت الانخراط في تحالفات تؤدي الى تغيير بوصلة معركتها الأساسية - ليبيا - ك «الجبهة العالمية لجهاد الصليبيين واليهود»، التي أنشأها الشيخ أسامه بن لادن في أفغانستان. وبحكم الحضور الكبير - آنذاك - لأفراد الجماعة في أفغانستان يشهد الجميع لها بالتزامها أوامر الإمارة الإسلامية ل «طالبان»، وعدم الخروج عنها كونها حكومة شرعية للبلد، ومع أن «طالبان» لا تجبر أحداً على مبايعة أميرها، إلا أن الجماعة كانت تفتي بوجوب السمع والطاعة للإمارة وعدم شرعية مخالفة أوامرها كون العرب الحاضرين – آنذاك - ضيوفاً عليها. وقد سمى الملا عمر الشيخ أبا المنذر الساعدي - المسؤول الشرعي للجماعة - شيخ العرب. هذه مقدمات أعتبرها ضرورية للحكم على الجماعة، فهي جماعة ذات رؤية شرعية وسياسية ولها تصورها عن الواقع، مع تجربة غنية، من التنظيم الى الهجرة والاغتراب الى الإعداد والمواجهة، وهي جماعة شورية، الشورى فيها ملزمة للأمير ومن دونه، ولعلي لا أشيع سراً أن الجماعة قررت وقف المواجهات مع النظام والسعي الى إيقاف العمليات العسكرية قبل ما يقرب من خمس سنوات على اعتقال وتسليم قيادات الجماعة للنظام، لعدم جدوى المواجهات من دون خطة متكاملة، ولاستحالة البناء من خلال المعركة. فقيادة الجماعة تتعامل مع التصورات والاستراتيجيات والاهداف التي وضعتها على أنها جهد بشري يعتريه ما يعتري الجهد البشري من الزيادة والنقص والخطأ في التقدير، بل إن الخطط كانت عرضة للمراجعة والنقد في كل جلسات القيادة والشورى. أما على مستوى النظام، فابتداءً، يعلم النظام وهو يحاور الجماعة أنها جماعة ليبية خالصة لها حرية قرارها من دون العودة الى أطراف خارجية، وهي جماعة تتحمل مسؤولياتها، وتلتزم اتفاقاتها، وكذلك لاقتناع النظام، أو على الأقل المؤسسة الوسيط بخطأ المرحلة الماضية من سد الابواب وكتم الحريات وهدم البيوت والقتل والاعتقال خارج نطاق القضاء، مما أدى بالشباب الى حمل السلاح ومواجهة النظام مهما كانت النتائج لأنه كما قيل – إذا عم الظلم فالفوضى هي الحل - وأيضاً لاعتراف النظام نفسه بالتجاوزات والاخطاء، وأن الثورات تأكل أبناءها، فقد قال العقيد القذافي نفسه «إن الثوره في ليبيا ارتكبت أخطاء كالثورة الروسية وغيرها من الثورات، فكل الثورات ارتكبت أخطاء»، أما سيف الاسلام القذافي فأشار الى التلاعب بالقضاء وتحكم اللجان الثورية والاجهزة الامنية بالبلد، واعتبر أن ذلك سيكون خرافة في المستقبل. ويدرك النظام أن استمرار التجاوزات السابقة لن يؤدي إلا الى التأزم، وأن لكل فعل رد فعل في الاتجاه المضاد، وأن بقاء الاسباب يعني بقاء النتائج، والحل هو في إتاحة الفرص والحريات بدل المواجهات التي لن يستطيع أحد أن يتنبأ بنتائجها، والتي كادت في السابق أن تودي بالنظام أو حتى بالدولة. كل هذه الاسباب ساهمت في إنجاح الحوار، فتجاوز المرحلة الماضية يحتاج الى إرادة جازمة ونية صادقة. ويبقى من الاهمية بمكان أن نوجه رسائل عسى أن تدفع بوتيرة الحوار الى ما فيه خير البلاد والعباد. فرسالة الى الجماعة المقاتلة قيادة وأفراداً في ليبيا وخارجها وداخل او خارج السجون، نذكر خلالها أن الجماعة قامت لتحقيق مصالح شرعية معتبرة وقدمت التضحيات في سبيل ذلك يشهد بها الجميع. إن المسلم مطالب بالعمل وفق الشرع والحرص على متابعة الحق بقدر سعيه وبحسب طاقته ولن يحاسبه الله عما عجز عنه، كما يجب إدراك أن العمل الجماعي جهد بشري يعتريه النقص أحياناً ومخالفة الحق أحياناً أخرى. قال إبن القيم (إن أبا بكر لا تعرف له مخالفة للسنّة، أما مخالفات عمر بن الخطاب فقليلة، أما مخالفات علي بن أبي طالب فأكثر رضي الله عنه)، هذا في الخلفاء الراشدين، فكيف بمن جاء بعدهم، وقد جاء في وصية عمر رضي الله عنه للقضاة: «ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس وراجعت فيه رأيك وهديت لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم وإن الرجوع الى الحق خير من التمادي في الباطل». المراجعة مطلب شرعي، سواءً أخرجت الجماعة من السجون أم لم تخرج، فليس من التراجع عن الدين تغيير الاهداف والسياسات، فقد حارب النبي (صلى الله عليه وسلّم) أقواماً وسالم آخرين، وعقد العهود والمواثيق، ونبذها، ورد أقواماً بثلث ثمار المدينة، وعقد الحديبية اعتبرها بعض كبار الصحابة إعطاء للدنية في الدين واعتبرها الله فتحاً مبيناً... فتصوير البعض للأمر على أنه تراجع نتيجة السجون والتعذيب وعدم الثبات على الحق هو تبسيط للمسائل وعدم إدراك لحقائق الامور. ولا يجرمنكم ما يردده البعض من الرجوع الى الوسطية، وهو اتهام مبطن بالغلو وهم يعلمون أن الجماعة من أبعد الناس عن الغلو. ومع تقديرى للتوجس والخوف الذي يعتري البعض من مدى التزام النظام بالاتفاق وكيفية تعامله المستقبلي مع الجماعة ومدى صدق النظام في الإفراج عن الجماعة وتجاوز المرحلة الماضية، فقد قال الله تعالى: «ومن نكث فإنما ينكث على نفسه»، الا أنه يجب الوقوف موقف المناصر والمؤيد لقرار الجماعة في فض الاشتباك مع النظام لما في ذلك من مصلحة حقن الدماء، وفك أسر السجناء وغيرها من المصالح المعتبرة. ورسالة أخرى هي للمؤسسة راعية الحوار (مؤسسة القذافي العالمية للتنمية) وهي رسالة للنظام نفسه، فكثير من الناس يتعاملون مع ما يصدر عنها باعتباره صادراً عن النظام. إن خيار المصالحة يقتضى اسلوباً للمصالحة يضمد الجراح ويمسح الآلام، ولا يرش الملح على الجروح. فبقدر اللين والرفق في رسالة أمير الجماعة جاء تعليق المؤسسة على الرسالة خالياً من ذلك، وبقدر إشادة أمير الجماعة في رسالته بجهد المؤسسة ورئيسها في تذويب الصعوبات وإزالة المختنقات، وبناء الثقة جاء بيان المؤسسة بمصطلحات (نبذ فساد التطرف) (وقف نزيف الضحايا) واتهامات (بالجهل والعمالة)، ليقطع الطريق على أي تعاطف مع رسالة أمير الجماعة، وليؤكد قناعات المتشككين في أن النظام يأخذ ولا يعطي... ألا يكفي أن رسالة أمير الجماعة جاءت متزامنة مع إبلاغات عائلات ضحايا مجزرة أبو سليم بمقتل أبنائهم؟ إن المصطلحات قوالب للمعاني، وإن النجاح في الحوار والوصول الى نتائج حقيقية مع الجماعة المقاتلة هو قطع لنصف الطريق للمصالحة الشاملة مع الجميع، فإذا كانت الدولة تحاور وتصالح من حمل السلاح في وجهها فغيرهم من باب أولى. إننا لم نسمع التشكيك في مراجعات الجماعة والتزامها تعهداتها، فالجميع موقن بذلك، في حين أننا نسمع التشكيك في مدى التزام النظام واستعداده للإصلاح، وما زال في السجون كثيرون من سجناء (عنابر البراءة)، وهناك من السجناء من وقعوا تعهدات خطية طلبت منهم عدم مواجهة الدولة وما زالوا في السجون. ألا تقبل المؤسسة – الدولة تعهدات هؤلاء الخطية المكتوبة والمؤرخة والموقعة منذ سنوات، في حين تقبل اعتذاراً غير مؤرخ منسوباً الى أمين - وزير - العدل الليبي على شكل تعزية لأهالي ضحايا مجزرة أبو سليم (1200 شهيد) يصف أبناءهم بالشهداء، وأنهم سيكونون شفعاء لوالديهم وأقاربهم أمام الله. أمضى الدكتور الجراح، محمد أبو سدره 21 عاماً في السجن منذ كانون الثاني (يناير) 1989 وبعد 17 سنة من اعتقاله من دون تهمة حكمت عليه المحكمة بالمؤبد عام 2005 والتهمة كونه من جماعة الدعوة والتبليغ، وما زال حتى اللحظة وراء القضبان. هناك الكثير مما يجب عمله لإعطاء صدقية أكثر لجهود المؤسسة، والدفع بقفل الملفات السابقة والتصالح مع الماضي، وتعويض الضحايا، قبل الحديث عن المشاركة في مسيرة التنمية وبناء ليبيا الغد التي يحلم الجميع بها إذا وجدت إراده صادقة لبنائها. * كاتب ليبي. عضو سابق في «الجماعة الليبية المقاتلة»