ترجمة: سهام عريشي كلنا سنموت. لعل هذا هو معنى الحياة. لكننا نمتلك اللغة. وهذا ما قد يعطي لحياتنا مقياسها الحقيقي. كان ياما كان في قديم الزمان كانت هناك امرأة مسنة. عمياء وحكيمة. أو لعله كان رجلاً مسناً؟ كانت قديسة على الأرجح. أو ربما رحَّالة تحكي القصص وتشفي أرق الأطفال. سمعتُ هذه القصة مراراً، أو سمعت قصصاً مشابهةً لها، في تراث ثقافات شتَّى. المرأة المسنة، العمياء الحكيمة. في النسخة التي أعرفها، كانت هذه المرأة ابنة لعائلة مستعبدة من السود الأميركيين، وتعيش في منزلٍ صغيرٍ خارج البلدة. جالت سمعتها الآفاق، إذ بلغت من الحكمة ما لا يتجادل ولا يتساءل فيه اثنان. كانت بين قومها هي القانون وهي الخروج عن القانون أيضاً. سمع الكثير عن الشرف الذي حظيت به، تجاوز حدود المكان الذي يجاورها إلى أماكن في أصقاعٍ بعيدة به، كذلك كان الخوف الذي سيطر عليها، ووصل إلى المدن. المدن التي يكون فيها ذكاء أهل الريف ونبوتهم مصدر تسلية كبيراً. في أحد الأيام، زار المرأة مجموعة من الشبَّان الذين بدا أن كل همهم هو إنكار قدراتها في الاستبصار وكشف الدجل الذي كانوا يظنون أنها تمتهنه. كانت خطتهم بسيطة: يدخلون منزلها ويسألونها السؤال الذي تقود إجابته لكشف الفرق بينهم وبينها، الفرق الذي يعتبرونه دليل إعاقة ملموس وهو عماها. وقفوا أمامها وتقدم أحدهم لسؤالها: «أيتها المرأة العجوز، إنني أحمل في يدي طيراً. أخبريني هل هو حيٌّ أم ميت؟» لم تُجِبْ، واستمرَّ السؤال: «هل الطير الذي أمسكه الآن حيٌّ أم ميت؟» لم تجب أيضاً، فهي عمياء ولا تستطيع أن ترى حتى زوّارها فضلاً عن الشيء الذي بين أيديهم. لا تعرف لونهم ولا جنسهم ولا البلاد التي جاؤوا منها. تعرف فقط الدافع الذي جاء بهم هنا. استمر صمت المرأة لوقتٍ طويل، وانفجر الشبَّان بالضحك. نطقت المرأة أخيراً، وكان صوتها ليناً وصارماً في الوقت نفسه: «لا أعرف. لا أعرف إن كان الطير الذي بين يديك حيّاً أو ميتاً، كل ما أعرفه تمام المعرفة أنه بين يديك. إنه بين يديك». أرادوا استعراض قوتهم مقابل ضعفها، فكان أن وبّختهم المرأة العجوز وأخبرتهم أنهم مسؤولون ليس فقط عن تصرفاتهم الساخرة، بل عن حزمة الحياة الصغيرة التي ضحوا بها لأجل هدفهم. لقد حوّلت المرأة العجوز انتباههم من الإصرار على القوة إلى الوسيلة التي تُمارس بها هذه القوة. يجذبني - الآن وكما كنتُ دائماً - التأمل في دلالات هذا الطير الذي في اليد (بعيداً عن ماهيته كجسدٍ ضعيف)، الآن على وجه التحديد وأنا أفكر في كتاباتي الأدبية التي جاءت بي إلى هذا الجمع. لقد اخترتُ دائماً أن أرى اللغة كالطير والمرأة كالكاتب المحترف. كان ما يهمها حقاً هو هذه اللغة التي تحلم بها، اللغة التي خُلقت بين يدها، كيف تتعامل معها، كيف توظفها، وكيف يمكن أن تُحرم منها لأسباب شنيعة. أن تكون كاتباً هو أن تفكّر بهذه اللغة كمنظومة كاملة من جهة، ومن جهة أخرى كمخلوقٍ حي تملك وحدك القرار بشأنه، وفوق كل هذا وذاك كقوة وكفعلٍ له عواقبه. إذاً فالسؤال الذي طرحه الأولاد عليها «هل هو حيٌّ أم ميت؟» لم يكن سؤالاً حقيقياً، لأنها ترى اللغة كائناً ذا حساسية عالية تجاه الموت والمحو، وهو عرضة للخطر وقابل للإنقاذ فقط على أيدي الجهد الذي تبذله الإرادة لأجله. إنها تعتقد أن الطير الذي بين أيديهم إن كان ميتاً فإن الأمناء عليه هم المسؤولون عن جثته. بالنسبة لها اللغة الميتة ليست مجرد لغة لم يعد يتحدث بها أو يكتبها أحد، بل هي لغة لا تُهزم وقانعة ومعجبة بشللها. هي لغة أشبه ما تكون بولاية داخل دولة، تراقَب وتراقِب. لا ترحم حين يتعلق الأمر بمهماتها الانضباطية، ما من هدف لها سوى الحفاظ على النطاق الحر الذي تملكه في نرجسيتها المخدرة، تفرُّدها، وهيمنتها الخاصة. حتى لو كانت تحتضر فإن ذلك لن يذهب سدى، فهذا الاحتضار هو ما يجعلها تتصدى للذكاء، تماطل الضمير، وتحدّ من إمكانات البشر. ولأنها ترفض الاستجواب فهي غير قادرة على تشكيل آراء جديدة أو التسامح معها، غير قادرة على تكوين أفكار أخرى، لا تستطيع أن تحكي قصة جديدة أو تردم صمتاً محيراً. اللغة الرسمية كالحديد الذي يُسنُّ للنطق بعقوبة الجهل، الحفاظ فيها على الامتياز يبدو كدرع مصقول لإفزاع البريق، القشرة التي انفصل عنها الفارس منذ زمن طويل. ومع ذلك لا تزال حية هنا: بكماء ومفترسة وعاطفية. تثير المهابة في نفوس أطفال المدارس، توفّر المأوى للطغاة، تستدعي ذكريات مزيفة عن الاستقرار والتناغم وسط الجميع. صوت اللغة المعطلة إنها مقتنعة تماماً أن اللغة عندما تموت، بسبب الإهمال والاستعباد واللامبالاة وغياب التقدير، أو حينما تُقتل تنفيذاً لأوامرٍ ما، فلن تكون وحدها المسؤولة، بل كل مستخدميها وصانعيها مسؤولون عن زوالها. في بلادها كان الأطفال يعضون ألسنتهم ويستبدلونها بالرصاص فقط ليرددوا صوت الوجوم، صوت اللغة المشلولة المعطَّلة، اللغة التي هجرها الكبار ولم تعد الوسيلة التي يشدّون بها وثاق المعنى، لم تعد الوسيلة التي يتزودون منها بالعون وبالتعبير عن الحب. لكنها كانت تعلم جيداً أن الانتحار باللسان لم يكن خيار الأطفال وحدهم. كان خيار البالغين أيضاً، خيار الرؤوس الصبيانية الحمقاء للولاة ولتجَّار القوة الذين نزحوا من لغتهم ولم يعد لهم من سبيل للعودة إلى ما تبقَّى من فطرتهم الإنسانية، لأنهم لا يستخدمون ألسنتهم إلا من أجل إصدار الأوامر التي تُطاع أو تُجبر على الطاعة. هذا النهب الممنهج للغة يمكن ملاحظته في ميل مستخدميها للتضحية بدقتها وتعقيداتها وقدرتها على التوليد في سبيل الحصول على مرادهم من التهديد والإخضاع. اللغة القمعية ليست مثالاً على العنف فقط، بل هي العنف بعينه، ليست مثالاً لقصور المعرفة فقط، بل هي قصور المعرفة بعينه. سواء أكانت تداهن اللغة الدولانية أم اللغة المزيفة للإعلام الطائش، سواء أكانت اللغة المغرورة المتكلسة للأكاديميين أم لغة السلعة العلمية، سواء أكانت اللغة الخبيثة للقانون الذي يتبرأ من الأخلاقيات أم اللغة التي صممت لتنفير الأقليات باستعارات تبدو أدبية وبراقة في ظاهرها وعنصرية نتنة في حقيقتها، كلها، كل هذه الأصناف من اللغة يجب أن تُرفض وتُغيَّر وتُكشف للملأ. إنها لغات تتغذى على الدم، وتلعق من نقاط الضعف، تدس رجلها الفاشية في حذاء مصنوع من جلد الاحترام والوطنية، وتتقدم بلا هوادة نحو خط النهاية ونحو العقول المنتهية. اللغة الجنسية واللغة العنصرية واللغة التوحيدية * جميعها نماذج للغة الضابطة للنظام والضابطة للسيادة ولا تستطيع، بل إنها لا تسمح بفتح الباب لمعرفة جديدة، ولا تشجع التبادل المشترك للأفكار. كانت المرأة المسنَّة تدرك تماماً أن لا أحد سيقتنع بأفكارها، لا المرتزقة الأذكياء ولا الطغاة النهمون ولا الساسة المأجورون والدهماء، ولا المزورون في الصحافة والإعلام. بالنسبة لهم، هناك لغة هائجة كانت ويجب أن تبقى حية، لتضمن بقاء المواطنين مُسلَّحين ويسلحون غيرهم، مقتولين ويقتلون غيرهم في الأسواق والمحاكم ومكاتب البريد والملاعب الرياضية، وفي غرف النوم وفي الشوارع التي تكتنفها الأشجار، لغة تقلب الناس على الجمر وتبقيهم مشغولين بأنفسهم لئلا ينتبهوا إلى أن موتاهم ذهبوا للأسف سدى في مذابح كانوا في غنى عنها. سيتزايد عدد اللغات الديبلوماسية التي تتغاضى عن الاغتصاب والتعذيب والاغتيالات. سيتزايد عدد لغات الإغراء التي تخدع المرأة بالانحراف فيما هي تخنقهن وتجز أعناقهن كالإوزات بكلماتهن أنفسهن، كلماتهن التي ماتت على شفاههن قبل أن تنطق، الكلمات التي لا يمكن تجاوزها أبداً. سيكون هناك المزيد من لغات المراقبة التي تتنكر في هيئة بحوث، المزيد من لغات السياسة والتاريخ التي تحوِّل معاناة الملايين وموت الملايين إلى الصمت. لغات مطلية ببريق كذَّاب لتخدع الثكالى والمعدومين ببهاء وشرف موت ذويهم، لغات تجريبية متغطرسة وزائفة صُممت بحرفية عالية لتغلق على المبدعين في أقفاص النقص واليأس. أكباد محروقة خلف البلاغة، خلف البريق، خلف الجمعيات العلمية، مهما كانت هائجة أو مغرية، فإن جوهر هذه اللغات هو أكباد محروقة، أو لعلها لم تعد تنبض أبداً إن كان الطير قد مات أصلاً. لطالما فكرت في التاريخ الفكري للمنظومات، كيف كان يمكن أن يكون شكل هذا التاريخ إن لم تصمم تلك المنظومات، أو تُجبر، على التضحية بالكثير من الوقت والكثير من الأرواح والتبرير اللازم والممثل لهذه الهيمنة؟ الخطابات المشوَّهة للإقصاء تمنع الجميع من الوصول للإدراك: المستعبِد والمستعبَد. الحكمة القديمة التي نعرفها عن قصة برج بابل هي أن سقوطه كان سوء حظ. بأن التشتت وأن ثقل الكثير من اللغات هو ما عجَّل بسقوط بنية البرج الفاشل. لو كانت لهم لغة متجانسة واحدة لوصل البنيان إلى السماء. أي سماء؟ كانت دائماً تتساءل. وما نوع تلك السماء؟ لعل بناء جنة كان سابقاً لأوانه، فعلاً متسرعاً بعض الشيء إن لم نكن قادرين على استغراق الوقت الكافي لفهم لغات أخرى، وجهات نظر أخرى، وقصص أناس آخرين. هل كانوا يتخيلون أن الجنة التي حلموا بها كانت تحت أقدامهم؟ الأمر معقَّد، وله ثمنه، نعم، لكنه يستلزم أن ترى الجنة كجزء من الحياة، لا كحياة بعد هذه الحياة. لم تكن تريد أن تترك انطباعاً لدى زائريها بأن على اللغة أن تُجبر على العيش لأجل العيش لا أكثر. إن حيوية اللغة تكمن في قدرتها على تصوير الحياة الفعلية، المحتملة والمتخيلة، لكل من يتحدث بها ويقرأها ويكتبها. مع أن توازنها يكون أحياناً في إزاحة تجارب لا يمكن أن يستعاض عنها بشيء آخر ولو كان اللغة نفسها. اللغة تتحرك في دوائر نحو المكان الذي يكمن فيه المعنى. حين فكَّر أحد رؤساء الولاياتالمتحدة ذات مرة بأن بلاده أصبحت مقبرة، قال: «لن يلاحظ العالم ولن يتذكر ما نقوله هنا، لكنه لن ينسى أننا السبب في ما حدث هنا»* أبهجتهم كلماته البسيطة بعد أن رفضوا تقبل حقيقة أن 600 ألف قتيل راحوا ضحية حرب عرقية كارثية. رفضوا النصب التذكارية، رفضوا التنكر ل«كلمتهم الأخيرة»، رفضوا التلخيص الدقيق لما قاموا به، معترفين ب«قوتهم المنهكة التي لا تضيف ولا تُنقِص، كلماته كانت تشير إلى احترام ما لا يمكن حصره بدقة وهي الأرواح التي قضت في الحرب. هذا هو الاحترام الذي يدفع هذه المرأة، ذلك التقدير الذي تعجز اللغة عن مجاراته بشكل حاسم ودائم. ولن يكون لها ذلك. لا يمكن للغة أن تُصلح ما أفسدته العبودية والإبادات الجماعية والحرب. ولن تتمنى اللغة الوصول للغطرسة اللازمة لفعل ذلك. لأن قوة اللغة ومصدر بهجتها هو الوصول إلى الجمال الأعظم من كل توصيف. سواءً أكانت فخمة أم مرهفة، مختبئة أم منفجرة، أم ترفض التقديس، سواء أكانت تضحك بصوتٍ عالٍ أم تنتحب من دون حذر، الكلمات التي نختارها، الصمت الذي نختاره، اللغة المتروكة على سجيتها، تتحرق نحو المعرفة لا نحو تدمير المعرفة. لكن من منا لم يسمع عن الأدب المحظور لأن حوله علامات استفهام كثيرة، الأدب الذي شوّهت سمعته لأنه كان بارعاً في النقد، الأدب الذي يُمحى لأن هناك بدائل كثيرة غيره؟ وما أكثرهم أولئك الذين تغضبهم فكرة اللسان الذي دمَّر نفسه؟ فرادة حياتنا البشرية ما أسماها مهنة الكلمات! هكذا كانت تفكر، لأنها تُورَّث من جيل إلى جيل، إنها تخلق المعنى الذي يضمن فرادتنا، فرادة حياتنا البشرية، حياتنا التي لا يشبهنا فيها أحد. كلنا سنموت. لعل هذا هو معنى الحياة. لكننا نمتلك اللغة. وهذا ما قد يعطي لحياتنا مقياسها الحقيقي. «كان ياما كان.....» طرح الزوَّار سؤالاً على المرأة المسنَّة. من كانوا؟ من كان هؤلاء الصبية؟ ما الذي أفادوه من هذه المواجهة؟ كلماتها الأخيرة «الطير بين يديكم» ماذا كانت تعني لهم؟ ماذا سمعوا فيها؟ هل كانت جملة تومئ إلى احتمالات عدة أم جملة تغلق الباب؟ لعل الصبية سمعوها على هذا النحو «ليست مشكلتي. أنا مجرد امرأة عمياء وسوداء ومسنَّة. الحكمة التي أمتلكها الآن هي أنني أعرف أنني لستُ ذات نفعٍ لكم. مستقبل اللغة لكم أنتم». كانوا يقفون هناك. تخيّلوا لو لم يكن بأيديهم شيء؟ تخيلوا أن هذه الزيارة كانت مجرد خدعة، حيلة لكي يتحدث الناس عنها كثيراً، ليأخذوها على محمل الجد كما لم يفعلوا من قبل؟ فرصة لمقاطعة عالم الكبار، لاختراق الجو الخانق لخطابه اللغوي. خطاب عنهم، ولأجلهم، لكنه لم يعبّر عنهم بتاتاً. أسئلة كثيرة على المحكّ الآن، من ضمنها سؤالهم «هل الطير الذي بين أيدينا حيٌّ أم ميت؟» لعل المقصود بالسؤال هو «هل لأحد أن يخبرنا ما هي الحياة؟ ما هو الموت؟ ليس في الأمر خدعة ولا استغفال. مجرد سؤال واحد مباشر ويستحق انتباه الحكماء. المسنين. وإن لم تكن المرأة الحكيمة المسنة التي عاشت في الحياة ما عاشت ورأت من الموت ما رأت لا تستطيع تعريف الحياة والموت، فمن ذا يستطيع؟ لكنها لم تفعل، بل حافظت على سرها، على احترامها الجميل لنفسها، بأقوالها المأثورة، بالفن الذي لا يجبره على شيءٍ أحد. لقد حافظت على المسافة بينها وبينهم، عزّزتها، ثم أحكمتها قليلاً إلى الوراء، إلى فرادة العزلة، في حيز معقَّد، لها وحدها حق الامتياز فيه. لا شيء، ولا كلمة تلت إعلان عزلتها هذه. فقط صمتٌ طويل، صمتٌ أعمق في معانيه من كل كلمة تفوهت بها. كان يرتجف هذا الصمت، وكان الصبية، غاضبين، يملؤونه بلغة خُلقت في لحظتها ومكانها. «ألن تقولي شيئاً؟» سألوها لاحقاً، «أما من كلمة تقولينها لنا لتساعدنا على اختراق حاجز فشلك؟ على اختراق أسلوبك التربوي هذا الذي لم يكن تربية إطلاقاً؟ لأننا ركّزنا في كل شيءٍ قمتِ به وكل شيءِ تفوهت به؟ ركّزنا في كل تلك الحواجز التي نصبتِها بين الكرم والحكمة؟ «لا نملك طيراً في أيدينا، لا حياً ولا ميتاً، لا نملك سواك وسوى سؤالك المهم. هل اللاشيء الذي في أيدينا هو شيءٌ يفوق قدرتك على التأمل؟ شيءٌ لا تحتملين التبصّر فيه؟ ألا تتذكرين حين كنتِ شابة وكانت اللغة سحراً بلا معنى؟ حين كان كل ما يمكن أن يقال بلا معنى؟ حين كان اللامرئي هو كل ما يحاول الخيال الوصول إليه؟ حين كانت الأسئلة ومحاولات الإجابة عنها تحترق بوهج عظيم، وكنتِ ترتعدين غضباً لأنك لا تعرفين؟ «هل علينا أن نكون أبطالاً وبطلات لنخوض حرب الإدراك التي خضتِها أنت وخسرتِ فيها ولم تغنمي سوى باللاشيء الذي بين أيدينا، اللاشيء الذي لا نعرف عنه شيئاً سوى ما تتخيلينه؟ «لماذا لم تحاولي الوصول إلينا، وتلمسينا بأصابعك الناعمة؟ لماذا لم تؤجلي دروسك الواعظة حتى تعرفي من نحن أولاً؟ هل كنتِ تزدرين حيلتنا؟ طريقة عملنا التي لم تري فيها أننا كنا نحاول جهدنا وحيرتنا لنلفت انتباهك؟ نحن في بداية أعمارنا. لم ننضج بعد. في حياتنا القصيرة هذه سمعنا ما يكفي من القصص التي تطلب منا أن نتعلم المسؤولية. هل لأي شيء من معنى في هذا العالم الذي أصبح نكبة، أو كما قال أحد الشعراء «لا حاجة لشرح شيء فكل شيء واضح وعارٍ حد الوقاحة». «كل ما ورثناه هو الخزي. وتريدين منا أن نكون مثلك مسنين بما يكفي، وبعين بيضاء بما يكفي فقط لنرى سواد هذا العالم القاسي المعتدل. أتظنين أننا أغبياء بالقدر الذي يجعلنا نحلف زوراً أننا نؤمن بوهم اسمه الأمة؟ كيف تجرؤين على أن تحدثينا عن الواجب فيما نحن غارقون إلى منتصف أجسادنا بسموم الماضي؟ السرد فطري «أنتِ تسخرين منا، من الطير الذي ليس في أيدينا. ألا يوجد سياق لحياتنا؟ لا أغاني لنا؟ لا أدب؟ لا قصائد غنية بالفيتامينات؟ لا تاريخ تدعمه الخبرة التي تمكنك من الوصول إلينا ومد يد المساعدة لنبدأ من جديد أقوياء؟ أنتِ راشدة. أنت المرأة المسنة، المرأة الحكيمة. توقفي عن التفكير في حفظ وجهك. فكري في حياتنا وأخبرينا عن خصوصية العالم الذي تعيشين فيه. اكتبي القصص. السرد فطري، يخلقنا في اللحظة نفسها التي يُخلق فيها. لن نلومك إن وصلت قصصك لحدودٍ أنتِ نفسك لا تستوعبينها، لن نلومك إن ألهب الحب كلماتك حتى احمرَّت في الأعلى وتساقطت شعلات ولم يبقَ منها إلا الوهج. لن نلومك إن غدت كلماتك، كيد جرَّاحٍ هادئ، لا تخيط إلا الأماكن التي تنزُّ دماً. نعلم أنك لن تجيدي ذلك من المرة الأولى. فالشغف وحده لا يكفي، والمهارة وحدها لا تكفي. لكن حاولي. من أجلنا ومن أجلكِ انسي الاسم الذي ينادونك به في الشارع، وأخبرينا عمَّا يعنيه العالم لكِ حين تكونين وحدك في مكانٍ مظلم، أو مضيء. لا تخبرينا عما يجب أن نؤمن به أو ما نخافه. أرينا اللباس الكبير للإيمان وغرز الخياطة على خمار الخوف. أنتِ أيتها المرأة المسنّة التي بوركت بالعمى، وحدكِ تستطيعين التحدث باللغة التي تخبرنا عما يمكن أن تفعله اللغة: عن كيف نرى من دون صور. وحدها اللغة تحمينا من الفزع من الأشياء التي لا أسماء لها. وحدها اللغة هي البصيرة. «حدثينا عن معنى أن تكوني امرأة، لعلنا نعرف معنى أن يكون الواحد منا رجلاً. حدثينا عما يتحرَّك على الحواف. عن معنى ألا يكون لك وطن في هذا المكان. عن معنى أن تُجلى بعيداً عن كل من عرفت. عن معنى أن تعيش على حدود قرية لا تطيق رفقتك. «حدثينا عن السفن التي هُجّرت من الموانئ في أعياد الفصح، ورست في الحقول. عن القوافل التي حملت الزنوج، عن أنفاسهم تحت البرد، عن أغانيهم التي لا يمكن تمييزها عن صوت الثلج الذي يتساقط فوقهم. عنهم كيف كانوا يحدسون بأن المحطة التالية هي دائماً الأخيرة. عنهم كيف حلموا بالشمس بالحرّ وأيديهم إلى السماء. كيف كانوا يرفعون وجوههم كما لو كانت لم تخلق إلا للقتل. يديرون وجوههم كما لو كانت لم تخلق إلا للقتل. عن القوافل التي تتوقف عند الحانات. عن صاحب العربة كيف يعود بلحم له ولرفيقه فيما هم يقضمون أصابعهم في الظلام. عن أنفاس الخيل التي تحط على الثلج، وتحت حافرها وهسيسها ولعابها أجساد الزنوج المتجمدة. «يُفتح باب الحانة. فتاة وولد يتسللان بعيداً عن الضوء. يتسلقان العربة. كان الولد معتاداً على حمل بندقية طوال ثلاث سنوات، أما الآن فيحمل لحماً وإبريقاً من نبيذ التفاح. كانا ينقلانه من فمٍ إلى فم. الفتاة كانت تقدم لهم الخبز واللحم، وتسترق النظر إلى صاحب الحانة الذي تعمل لديه. يد عونٍ لكل رجل، ويدان لكل امرأة. ونظرة. ثم نظرة أخرى إلى الخلف. المحطة التالية ستكون محطتهم الأخيرة. لكن هذه المحطة لم تكن الأخيرة. لأول مرة كانت المحطة دافئة». توقف الصبية عن الحديث، وعمَّ صمتٌ طويل حتى اخترقت المرأة سكونه وقالت: «أخيراً، أنا أثق بكم الآن. أثق بكم وبالطير الذي ليس بين يديكم، لأنكم فعلاً قبضتم عليه، قبضتم على المعنى. انظروا هنا. كم تبدو جميلة هي الأشياء حين نصنعها معاً». * خطاب الكاتبة الأميركية في حفلة تسلم جائزة نوبل.