قرأت على صفحات مجلة «العربي» العدد 576 لشهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 مقال الدكتور قاسم عبده قاسم المعنون «ابن خلدون... كيف قرأه المؤرخون؟». ومن ظاهر عنوان المقال أنه سؤال طرحه أستاذنا الفاضل وأجاب عنه بما يتعلق بكيفية قراءة فترتين زمنيتين مختلفتين تماماً الأولى فترة المعاصرين له، والثانية فترة الأجيال الحديثة، وأكد أن مقدمة ابن خلدون «الشهيرة... صاغت هيكل فكرة التاريخ في الثقافة العربية الإسلامية»، والحقيقة أن مقدمة ابن خلدون كانت تجربة عبقرية فريدة في عصرها، وفي وقتنا الحاضر قلّ أن يجود الزمان بمثلها، وذلك لأنها كانت مثلما ذكر هو نفسه في كتابه «تطور منهج البحث في الدراسات التاريخية»(ص 145) «نقلة نوعية كبيرة في تطور مناهج البحث التاريخي... وتكمن أهميتها في آرائه التي طرحها عن علم التاريخ، إذ إن هذه المقدمة تضمنت آراء ونظريات مهمة تمثل حصاد التراث التاريخي على مر عصور الثقافة العربية الإسلامية». ثم ينتقل إلى تبين الأسباب التي جعلته يعتبر مقدمة ابن خلدون نقلة تطورية لمنهج البحث التاريخي فيقول: «وفي رأينا أن أهم تطور منهجي بلوره ابن خلدون في مجال الدراسات التاريخية هو البحث عن علاقة السببية الوضعية في وثائق التاريخ نفسها أو في أحوال العمران على حد تعبيره (ابن خلدون). فقد بلور اتجاهاً جديداً في منهج البحث التاريخي يرفض الحكم على صحة الخبر بمعيار أخلاقي يعتمد على عدالة رواة الخبر... وإنما يجعل وقائع التاريخ واتساقها المنطقي، ومطابقتها لقواعد الاستقراء والاستنباط معياراً لصحة الخبر التاريخي»(ص 146). والحقيقة أن ذلك العبقري حينما بدأ كتابة مقدمته كانت خلفيته الثقافية قائمة على التصور القرآني لفكرة التاريخ، إذ إن القرآن الكريم حين يأمر المسلمين بالنظر والتأمل والتدبر في حوادث التاريخ يحاول أن يبين لهم من خلال مفاهيم العبرة والعظة التجارب التي مرت على الجماعة البشرية، والتي ينبغي على المسلمين أن يتعلموا من دروسها، ويوضح أن التغيرات التاريخية لا تحدث فجأة وإنما نتيجة تراكم بعض الأسباب التي يترتب عليها تغير كبير بعد فترة زمنية قد تطول وقد تقصر، وتؤكد ذلك العبارات التعقيبية الواردة في نهايات القصص القرآني مثل «فاعتبروا يا أولي الأبصار»(الحشر: 2)، و «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب»(يوسف: 111)، وفي الوقت نفسه يدعوهم إلى البحث والنظر والتأمل في الحوادث الماضية لكي يجدوا تفسيراً في حاضرهم يبصرهم بمستقبلهم ويرشد لهذا المعنى قول الحق سبحانه «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير»(العنكبوت: 20)، وأيضاً للاستفادة من تجارب السابقين لكي نتعلم من أخطاء الماضي لنتفهم الحاضر ونتلمس المستقبل بعيداً من تلك الأخطاء حتى لا نقع فيها مرة أخرى، إذ إن دراسة التاريخ لا غنى عنها للإنسان باعتباره كائناً اجتماعياً، ولهذا ينبغي عليه أن يعرف تاريخ تطوره وتاريخ أعماله وآثاره، فالإنسان لا يستطيع أن يتفهم حاضره ما لم يكن ملماً بماضيه لأنه ليس ابناً للحاضر فقط بل هو ابن للماضي وثمرة الخلق كله منذ آدم عليه السلام. ولقد أدرك الدكتور قاسم هذه الحقيقة في مقدمة كتابه «القراءة الصهيونية للتاريخ... الحروب الصليبية نموذجاً»، فكتب يقول (ص 5): «التاريخ لغة قوية لا تنحصر في محاولة بث الإعجاب ومداعبة مشاعر الزهو القومي، وإنما هو أيضاً مخزن للتجارب الإنسانية التي يمكن أن تنير الحاضر وتهدي إلى سبيل المستقبل، فكتابة التاريخ هي نقطة التقاء بين الماضي والحاضر»، ولهذا فإنه مهما حاول المؤرخون القدامى أو المعاصرون قراءة مقدمة ابن خلدون فإنهم لا يزالون «غير قادرين على قراءة مقدمته بالشكل الإيجابي» وذلك لأن الفكر التاريخي العربي لا يزال مثلما ذكر مؤرخنا الكبير في مقاله «يستهلك الفكر التاريخي الذي ينتجه الغرب الأوروبي والأميركي بشكل خاص، ولم تقم حتى الآن محاولة جادة لقراءة تراثنا الذي يمثله ابن خلدون قراءة جديدة تجعلنا نحاول صوغ الفكر التاريخي الذي يعبر عن حركتنا الاجتماعية والسياسية والفكرية». وبناء على ذلك، فإن مقدمة ابن خلدون تحتاج إلى وقفة من المؤرخين المعاصرين يحاولون من خلالها استقراءها من جديد. تلك المقدمة التي كانت تطوراً عظيماً لم ينبع من الفراغ أو العدم فهو مثلما ذكر كاتب المقال لم يكن ليبدعها لو كان عاش في صحراء فكرية.