أعلنت وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» أخيراً على موقعها الإلكتروني أن مرصدها الفضائي العامل بالأشعة السينية، «شاندرا-إكس» Chandra X، اكتشف ما يمكن اعتباره دليلاً قوياً على وجود ثقب أسود Black Hole صغير الحجم، وحديث الولادة نسبياً، في الجوار الكوني للكرة الأرضية. ويُقدّم هذا الجسم غير المرئي الفرصة الوحيدة المتاحة حتى اليوم لرصد ثقب أسود أثناء ولادته ونموّه. إذ لا يزال هذا الثقب في طور طفولته الأولى، ولم يتجاوز عمره عتبة ال 30 عاماً. معضلة الثقوب السود ويُطلق العلماء اسم الثقب الأسود على أجسام يفترض أنها شديدة الثقل وفائقة الكثافة، إلى حد أن مقدار ملعقة منها يزن أطناناً، كما تتمتع بقوة جاذبية هائلة، بحيث أن لا شيء يستطيع الإفلات من قبضتها، وحتى الضوء نفسه (على رغم سرعته الهائلة) لا يستطيع أن يغادر سطحها. ولذا، سُميّت ثقوباً سوداً. وظهرت فكرة وجود أجسام فائقة الوزن والكثافة والجاذبية في القرن الثامن عشر، على يد عالم الجيولوجيا الإنكليزي جون ميتشل وعالم الرياضيات الفرنسي بيار لابلاس. وتبلوّرت فكرة الثقوب السود علمياً، بالطريقة التي تُعرف بها راهناً، بفضل اشتغال كارل شوارتزشايلد في العام 1916، على نظرية النسبية التي صاغها ألبرت إينشتاين. وحدثت قفزة في فكرة الثقوب السود، في سبعينات القرن الماضي، على يد عالم الفيزياء الإنكليزي الشهير ستيفن هوكنز، الذي هزّ الصورة النمطية عن الثقوب السود. إذ رأى هوكنز أن ثمة نوعاً من الأشعة ينجح في الإفلات من الثقب الأسود، حاملاً معه مقداراً من الطاقة. واستنتج أن هذا التسرّب يؤدي إلى تبخّر تدريجي للثقب الأسود. وأُطلق اسم «أشعة هوكنز» على هذا «الضوء» المتسرب من الثقوب السود. وبقول آخر، من المستطاع التفكير في الثقب الأسود باعتباره «جثّة» فلكية تنجم من بقايا انفجار نجمٍ كبير تفوق كتلته بأضعاف كتلة الشمس. ويترافق الانفجار مع تمدّد في الطبقات الخارجية لذلك النجم الهائل، وتقلّص كتلته، وانهيارها على ذاتها. يسحق هذا الانهيار الذي يحدث تحت تأثير الجاذبية الذاتية الهائلة في قلب الثقب الأسود، الذرات وأنويتها، بل حتى مُكوّنات الأنوية من الجسيمات الأولية كالبروتون والنيوترون. وينجم عن هذه الانسحاق النووي شكل غريب الأطوار من المادة (مع ما يرافقها من طاقة) لا يزال يحيّر عقل العلماء. إذ تبدو كتلة النجم الضخم المنفجر حاضرة مع جاذبية هائلة بحيث لا يتمكن أي شيء من الإفلات منها. وفي المقابل، يتلاشى حجمها وحضورها المرئي إلى حدّ الصفر. وينجم عن ذلك جرم فلكي لا حجم له، غير مرئي (لا بالعين ولا بأقوى التلسكوبات والمراصد)، لكنه فائق الجذب والقوة والتأثير في محيطه الفلكي المباشر. كيف يمكن التيقّن من وجود ثقب أسود؟ يحدث ذلك بواسطة رصد صرخات النجدة المنطلقة من المواد القريبة منه، والتي علقت بجاذبيته الشديدة. ويؤدي ذلك إلى زيادة في سرعة دوران تلك المواد حول الثقب، قبل أن يبتلعها. تتمثّل هذه الصرخات في ضوء له طبيعة خاصة، إذ يتألّف من أحد أنواع أشعة إكس السينية، التي تتناسب طاقتها المرسلة مع سرعة سقوط هذه المواد في الثقب الأسود. بالعودة إلى ما أعلنته وكالة «ناسا» أخيراً، يتبيّن أن الثقب الأسود المكتشف قد تشكّل من بقايا انفجار أحد النجوم الضخمة (يُسمى هذا النوع من الانفجار «سوبر نوفا»). وقد رُصد هذا ال «سوبرنوفا» عام 1997. وحينها، سمّاه العلماء «أس أن 1997» SN 1997C. وقد رُصدت هذه الأحداث في مجرة «إم 100» التي تبعد عن الأرض مسافة 50 مليون سنة ضوئية. وبالمقارنة، نذكر أن أقرب مجرة إلى «درب التبانة» (وهي مجرتنا)، تحمل اسم «أندروميدا» وتبعد عنا مسافة 2.5 مليون سنة ضوئية، وأبعد مجرّة رصدت من الأرض تبعد مسافة 14 مليار سنة ضوئية تقريباً. ورأى علماء وكالة «ناسا» أن ذلك يعني أن «أس أن 1997» التي سجّلها مرصد الفضاء «شاندرا»، حدثت في مجرة «إم 100» قبل 50 مليون سنة. في السياق عينه، رُصدت ظاهرة السوبرنوفا «أس أن 1997»، من مرصدين فضائيين تابعين ل «ناسا»، هما «شاندرا» و»سويفت» Swift، وكذلك القمر الاصطناعي «نيوتن-إكس إم إم» XMM-Newton التابع ل «الوكالة الأوروبية للفضاء»، والمرصد الألماني «روزات» ROSAT. وبيّنت عمليات الرصد هذه أن جسماً لامعاً في مشارف مجرة «إم 100» استمر في إطلاق حزم ثابتة من أشعة- إكس طوال فترة رصده من عام 1995 حتى عام 2007. ورأى العلماء أن هناك سببين محتملين لتفسير هذا الأمر: وجود ثقب أسود يتغذّى على فتات النجم المنفجر، أو وجود جرم مُكوّن من المادة المُضادة Anti- Matter، يقدر على إطلاق مثل هذه الأشعة في المكان المرصود. ومال معظم علماء الفلك إلى الاحتمال الأول، من دون حسم المسألة بصورة نهائية. وِلادات كونية عنيفة في هذا الصدد، أوضح العالِم دانيال باتنود، من مركز «هارفرد- سميث» للفيزياء الفلكية في كامبردج، وهو من يتولّى الإشراف على البحوث المتصلة بهذا الموضوع انه «إذا أصابت تحليلاتنا، فسوف نكون أمام أول عملية رصد لولادة ثقب أسود انطلاقاً من الكارثة النجمية التي أوجدته». ويرى الباحثون أن السوبرنوفا «أس أن 1997» نتجت من انهيار نجمٍ كبير تفوق كتلته 20 ضعفاً كتلة الشمس، مع ملاحظة أنها بدورها تفوق ب 330 ألف مرة كتلة الأرض. المعلوم أن ثقوباً سوداً كثيرة اكتشفت في الكون المترامي الأبعاد، بواسطة التقاط انبثاقات «أشعة غاما» التي تصدر عنها. وبحسب علماء فيزياء الفضاء، تصدر «أشعة غاما» عن الغلاف الهيدروجيني للنجم المنفجر، إثر تعرّض هذا الغلاف للمقذوفات المركزية الفائقة الطاقة قبيل انهيار قلب النجم على ذاته. ولاحظوا أيضاً أن السوبرنوفا «أس أن 1997» خرجت عن المألوف بسبب قربها نسبياً من مجرتنا، ولكونها تنتمي إلى نوعٍ من السوبرنوفا لا يصدر عنه انبثاقات أشعة غاما، بل أشعة إكس. فبحسب قوانين الفيزياء النظرية، لا تعلن الثقوب السود الجديدة عن نفسها بانبثاقات أشعة غاما، بل بإصدار أشعة إكس. وتتوافق ظاهرة العمر الصغير نسبياً (30 سنة) للثقب الأسود المُكتشف مع دراساتٍ حديثة في الفيزياء النظرية. ففي 2005 ظهرت نظرية تقول إن الضوء المرئي الساطع الذي انبثق من سوبرنوفا «أس أن 1997»، تكّون بسبب عدم قدرة المقذوفات المركزية للنجم المتفجّر على اختراق الغلاف الهيدروجيني للنجم وإثارته بحيث يطلق انبثاقات غاما. وقد أثبتت المعطيات التي أتاحها «شاندرا» والمراصد الأخرى، أن هذه النظرية تتلاءم تماماً مع البيانات المسجّلة. ومع أن المعلومات ترجّح وجود ثقب أسود جديد قد ورث سوبرنوفا «أس أن 1997»، إلا أن احتمالاً آخر لا يجوز تجاهله، هو احتمال تشكل نجم نيوتروني صغير يطلق ريحاً قوية من الجسيمات فائقة الطاقة ويتسبب بإصدار أشعة إكس من الغازات المحيطة بالانهيار النجمي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الجرم الفلكي «أس أن 1997» قد يكون أصغر نموذج لما يعرف «بالريح السديمية النابضة» أو النجم النيوتروني. والنجم النيوتروني هو حال تنشأ إثر انهيارٍ أو انفجار نجمي لنجمٍ تتراوح كتلته بين 3 و6 مرات كتلة الشمس. ويتقلّص القسم المركزي المتبقي بكتلةٍ تتراوح بين 1.5 و3 مرات كتلة الشمس، إلى حجمٍ كرة لا يتعدّى قطرها 20 كيلومتراً. وتكون جاذبية هذه الكرة قادرة على تحطيم الذرات في المركز، لكنها تعجز من تحطيم النيوترونات النووية، فيصبح النجم المتبقي كله نواةً موحدة ليس فيها سوى نيوترونات. ولا تكون نبضات النجم النيوتروني متواصلة كما في الحال في «أس أن 1997»، بل أنها مثل أضواء منارة السفن دوارة ومتقطعة. على رغم ذلك، يتفق علماء الفضاء على أن الأمر يستحق المزيد من الرصد لحسم الإشكاليات المتعلقة بهذا الثقب الأسود القريب.