«سلمية، سلمية»... «لا عنف ولا تخريب»... «لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك».... هي أهم الشعارات التي تكرر رفعها وترددت في غالبية ساحات الاعتصام والتظاهر العربية، وكأن ثمة تناغماً مدروساً ينتقل من مشهد إلى مشهد كي يشهر ترابطاً لافتاً بين مطلب التغيير الديموقراطي وبين أن يكون لاعنفياً وآمناً. والإصرار على خيار التغيير السلمي ليس لصعوبة حصول الناس على السلاح، والجميع يعرف مثلاً أن ما من بيت في اليمن إلا ويمتلك أسلحة تفيض عن حاجته، وليس لغرض خبيث هو تمسكن الناس حتى يتمكنوا، وكمناورة لتحييد دور القوى الأمنية والعسكرية بصورة موقتة كي يضمنوا الغلبة، بل ربما لأن الشعوب الثائرة تعي أنها من سيرث هذه الأرض وعفوياً يتفق جهدها على منع قوى الماضي التي تحتضر من تحويلها إلى أرض محروقة، وربما لأنها تريد أن تقنع نفسها قبل الآخرين أن هذه الثورات التي تشارك فيها مختلف التكوينات الاجتماعية، هي ثورات إيجابية وبناءة تلتقي على نبذ العنف والتفرقة وعلى الاحتكام لدولة القانون والمؤسسات، وتحاول على النقيض من الماضي أن تستمد شرعيتها ليس من منطق القوة والإرهاب بل مما تقدمه من ضمانات للناس في صيانة حقوقهم وحرياتهم وعيشهم الكريم. وربما لأنها بخيارها السلمي تريد بالفعل أن تحمي شعار الحرية من كافة الموبقات والأساليب الدنيئة التي عادة ما يمررها « القادة الثوريون «تحت عباءة مثل هذه الشعارات البراقة، وتالياً لتكريس قيمة أخلاقية كبيرة عن العلاقة الصحيحة الواجب بناؤها بين هدف الحرية النبيل الذي ينادي المحتجون به وبين الوسائل الصحية المفترض أن تفضي إليه، والتي تستدعي بداهة احترام حياة الناس وأمنهم وحقوقهم وتنوع مشاربهم ومواقفهم ومصالحهم. هو إفراط في التفاؤل حين يعتبر البعض التجربة الليبية وما آلت إليه أشبه بالاستثناء الذي يؤكد قاعدة سلمية الثورات العربية، ويجدون، على رغم أن تطور الأوضاع هناك لا يقبل التبسيط والتسطيح ويرتهن لمجموعة عوامل مركبة، أن الثوار تسرعوا في حمل السلاح وأضاعوا فرصاً سلمية للرد على القمع الشديد الذي طبق ضدهم، وبالتوازي يجد البعض الآخر أن ما حققته الثورتان التونسية والمصرية من نتائج باهرة في زمن قصير وبتكلفة قليلة يعود في أحد أسبابه إلى عنصر المفاجأة، ويرجحون أن تأخذ الأمور منحى مختلف في بلدان أخرى، إن لجهة الثمن الكبير المحتمل أن يدفع أو لجهة ما قد يعترض مسار التغيير من صعوبات ومزالق خطرة. بخاصة أن الأنظمة القائمة قد استفادت مما حصل وستبذل قصارى جهدها لمواجهة الحراك الشعبي واستنزاف طاقته وتأجيل نتائجه إلى أبعد مدى ممكن على أمل ربح الوقت وانتظار مستجدات قد تأتي في صالح تثبيت سلطانهم، بما في ذلك اللجوء إلى سبل ودعايات متنوعة تسعى إلى تحييد الموقف العالمي الداعم موضوعياً لهذه الاحتجاجات، كالتخويف من المد الإسلاموي الأصولي وتنامي دور تنظيم القاعدة، ومن النتائج الإقليمية لفوضى محتملة ربطاً بتغذية ما يمكن من صراعات متخلفة وتوفير شتى الفرص لاستيلاد القوى المتطرفة. طبيعي أن تساهم أطراف عدة في إجهاض الخيار السلمي، إن من داخل الأنظمة أو من أوساط المحتجين أنفسهم. فثمة قوى في الحقل الأول يهمها تحويل الاحتجاجات من مسارها السياسي الى مسار أمني، باللجوء الى القمع المفرط والرهان على بعض الممارسات الاستفزازية في شحن الغرائز والانفعالات وردود الأفعال الثأرية، لدفع الناس للتخلي عن توجههم السلمي وتبني أساليب المقاومة العنيفة، كي تسوغ لنفسها خيار العنف وتشرعن منطق القوة والقمع بذريعة مواجهة الإرهاب وعصاباته المسلحة وبدعوى الحفاظ على الأمن والمنشآت العامة وحماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم، وتالياً لإخضاع المجتمع لقواعد لعبة تتقنها جيداً وتمكنها من إطلاق يدها كي تتوغل أكثر في القمع والتنكيل في ظل ما تملكه من خبرات أمنية ومن توازن قوى يميل على نحو كاسح لمصلحتها. وإذ يذهب البعض في الحقل الثاني إلى تشجيع استخدام السلاح والعنف للرد على ممارسات دموية وظالمة وعلى أنظمة لا تتوانى عن استخدام أشنع الأساليب للحفاظ على مواقعها، لكن على هؤلاء ألا ينسوا حقيقة أن اللجوء إلى العنف قد يشفي غليل بعض المتضررين لكنه الطريق الأقصر للهزيمة، وانجرار إلى أساليب القهر ذاتها التي يناهضونها، ما يهدد بتدمير ما حصل من تراكمات والقضاء على كل الآمال. فالمسألة ليست رد فعل أو مسألة انتقام وثأر بل مسألة سياسية وأخلاقية في آن واحد، فلا تستقيم نصرة قيم الخير والحرية والعدل التي ندعو إليها، إذا شوه العنف والتعصب بنيتنا الإنسانية وإذا لجأنا إلى أساليب نضالية لا تنسجم مع رقي هذه القيم، خاصة وأن عالم الصورة والإعلام التفصيلي الحي، يمنح النضال السلمي اليوم، قدرة متميزة على تعرية أساليب القمع ومحاصرتها وعلى توسيع قاعدة التعاطف الشعبي والعالمي مع المقهورين. والحقيقة أن العنف والعنف المضاد بكل أشكاله وأدواته، هو ظاهرة خطيرة تصيب الكيانات البشرية، فتمزق أواصرها، وتعمق شروخها، وتفضي في حال استحوذت على الفضاء السياسي والمجتمعي إلى عسكرة الحياة وتحويل فئات المجتمع إلى ما يشبه الجيوش المعبأة والمتصارعة، خالقة حواجز نفسية حادة بين أبناء الوطن الواحد، ومسهلة انتهاك أبسط حقوقهم، وتالياً الإجهاز على مشروع التغيير الديموقراطي من أساسه. وإذ نؤكد أخيراً أن عنف الآخرين وهواجسهم واندفاعاتهم العدوانية لا تصح مواجهتها بالردع وباستعراض العضلات وبعنف مضاد، بل بالإصرار على خيار التغيير السلمي، حتى ولو كان الثمن التضحية بالذات مثلما اختار محمد البوعزيزي والشبان الأبطال الذين يعرون صدورهم لتلقي الرصاص الحي، وإذ نؤكد أيضاً على أن التمسك بالنضال اللاعنفي هو خيار صعب يتطلب تعاملاً أخلاقياً رفيعاً وقدرة عالية على تحمل الأذى والضرر، فإن المطلوب في كل الأحوال، ومع تثمين كل صرخة ألم وكل قطرة دم تراق، أن لا تفقد قوى التغيير زمام المبادرة وأن تتحلى بمزيد من الصبر وضبط النفس والاعتدال وتجنب الانجرار للرد على الاستفزاز وعلى العنف بالعنف، فالإصرار على الخيار السلمي مهما كانت التضحيات والآلام هو ضرورة حيوية ليس فقط لهزم التعصب والعنف ومحاسبة مرتكبيه، وإنما أيضاً للنجاح في تعديل موازين القوى والتوصل الى لحظة حرجة يجبر الجميع فيها على إجراء تغيرات جذرية تنتصر للحياة الديموقراطية التي يتوق الناس لها. * كاتب سوري