لم تقد إطاحة النظامين التونسي والمصري حتى هذه اللحظة إلى استقرار سياسي وحياة سياسية جديدة، بل استمرت عملية المد والجزر بين الفعاليات السياسية المحلية بمختلف توجهاتها من دون أن يكون هناك توافق واضح على الطريق المراد سلوكه. ومن المتوقع أن تزيد الحيرة والشقاق بين هذه القوى كلما تم المضي قدماً نحو تشكيل الفصل الأخير من المشهد السياسي. وبالمنطق نفسه، فإن السياسة الخارجية عانت هي نفسها من المخاض السياسي، بحيث أصبح هناك توقع شعبي بأن تتغير ملامح السياسة الخارجية وفقاً للتغيير الذي حصل في الداخل. لكن حقيقة الأمر أن السياسة الخارجية لها تشعباتها وتعرجاتها بحيث أصبح من الصعوبة بمكان تغيير البوصلة السياسية بكل يسر وسهولة. فعقود من العلاقات المتينة مع المحيط الإقليمي والدولي تضع قيوداً كبيرة على توجهات الدول الخارجية، إذا أريد المحافظة على المصالح المشتركة في مرحلة عصيبة من تاريخ المجتمعات الثائرة. فلا المحيط العربي الشقيق ولا المحيط الدولي الصديق يتقبل مثل هذا التحول، لأن لذلك آثاره السلبية على نظام الأحلاف والمصالح في المنطقة. خذ على سبيل المثال العلاقات المصرية - الإيرانية، فالتصريحات التي خرجت من المسؤولين في وزارة الخارجية المصرية حول الرغبة في عودة العلاقات المصرية - الإيرانية تتجافي مع الواقع الإقليمي والدولي الرافض لذلك، لا سيما في ظل التدخل الإيراني في الشأن الداخلي البحريني واستمرار احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، والتصريحات العدائية الإيرانية ضد دول الخليج. فمصالح مصر مع محيطها تستوجب توخي الحذر تجاه إيران، وضرورة عدم التسرع في ذلك، بل المطلوب في مثل هذه الظروف صوغ موقف عربي واحد، إذا أرادت القاهرة أن تستعيد دورها الطليعي في المنطقة العربية. إذاً، الحديث عن مصر بعد الثورة، لا يعني بالضرورة سياسة خارجية ثائرة على الماضي، حتى وإن تناقض ذلك مع حقيقة أن هناك توجهاً سياسياً مغايراً تماماً لما كان سائداً قبل الثورة. أما في ليبيا، فإن الوضع لا يقل غموضاً أيضاً، فواضح أن عملية الحسم العسكري دون أن يكون هناك تدخل عسكري مكثف من القوات الأجنبية غير ممكنة في المدى المنظور. فطبيعة النظام السياسي البدائية وغير المؤسساتية التي سادت المشهد السياسي الليبي - عن قصد - خلال سنوات حكم العقيد القذافي، تضاف إلى ذلك الولاءات القبلية والتحالفات الخارجية للنظام، عززت إمكانية حدوث فوضى سياسية أو حرب أهلية، وذلك ما هو حاصل على أرض الواقع. كما أن العلاقات المتينة التي كانت تربط النظام الليبي ببعض الدول الأفريقية المجاورة أبقت على قدر من التعاطف مع النظام الليبي، وهذا واضح من موقف الاتحاد الأفريقي من الأزمة، فيما أصبحت أميركا، لأسباب داخلية وخارجية، غير متحمسة في شكل كاف لتغيير النظام الليبي، وليس لديها الثقة في البديل في حال إسقاط النظام القائم في ليبيا. بينما تفاوتت مواقف الدول العربية بين مؤيد ومتعاطف ومتحفظ على إسقاط النظام الليبي، حتى وإن كان ذلك تحت ذريعة حماية المدنيين. إذاً، لا يمكن الإلمام بخيوط المشهد الإقليمي من دون أن تكون الصورة الكلية واضحة أمامنا بتقاطعاتها الداخلية والإقليمية والدولية. وهذا يجعل من الثورات العربية غير مكتملة الدورة وغير مضمونة النتائج. كما أن التوقع بأن ينتج من التغيير السياسي الداخلي تغير آني في السياسة الخارجية أمر مشكوك فيه، ويحيطه الكثير من العراقيل. وفي ظل كثرة القضايا والملفات العالقة في المنطقة، وتشابك خيوطها، فإن تداعياتها تتجاوز الحدود القطرية وهذا يبطئ من إمكان حدوثها أيضاً. على رغم ذلك تظل الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها وهي أن حاجز الخوف لدى الشعوب انكسر، وعلى الأنظمة السياسية التعامل مع هذا الواقع المتغير في شكل موضوعي وجدي، بعيداً من التسطيح والمناورة، فيما يتوجب على القوى المعارضة أن تكون على قدر من الواقعية السياسية بحيث ترضى بما دون الحد الأعلى من مطالبها، لأن التغير السياسي في الوطن العربي لن يكون سلساً، وقد لا يكون مضمون النتائج. * مستشار أمين عام جامعة الدول العربية