صخبٌ ألوان وخطوط متقاطعة على دروب لا تفضي إلى مكان، سوى إلى ذاكرة متعبة من ثقل محمولاتها البصرية وتراكماتها وخياراتها الصعبة. لأول وهلة تبدو اللوحات الآتية من سفر الأمكنة للفنان والناقد أسعد عرابي، المعروضة في غاليري أيام في بيروت (حتى 6 كانون الثاني- يناير 2018) مشحونة بالقلق والمعاناة والاستذكارات الغائبة، عن نساءٍ وبيوت وأزقة ووطفولة واحلام، ثم ينكشف المسار التمهيدي لهذه التعبيرية التي استطاعت أن تشق مسافاتها العمقية إلى الوجدان العربي، على مدى أكثر من خمسة عقود من الزمن، ما بين دمشق وصيدا وباريس، حيث الولادات الثلاث التي تتنافس في أدوارها على اجتذاب ريشة الفنان إلى أحضانها وذكرياتها. ربما يكمن هنا معنى الاشتباك التعبيري الحاضر دوماً في لوحة أسعد عرابي، من هذا المكان الذي يختار أكثر من وسيط كي يعبّر ليس عن مكنونات الذات وفحوى المخيلة فحسب بل عن حال الجماعة. وقد يكون ذلك عائداً إلى شخصية المثقف والناقد التي تحتوي بدورها شخصية الفنان، فهو يمنح أعماله أبعاداً تنظيرية وجمالية ويضعها في أفق مرجعياتها الفنية التي تقع ما بين الانتماء المشرقي (ذي الاصول الاسلامية بمعاجمه الصوفية والمفردات الحلمية والحضرية) والبيئة الثقافية الغربية المكتسبة من إقامته الطويلة في باريس. وهي المعرفة الاستباقية بالمعنى الفينومولوجي phenomenology التي يعيشها الفنان كناقد، لا سيما حين يكون مهاجراً يجمع بين ضفاف متعددة الانتماءات والثقافات. «مختارات من الذاكرة» عنوان استذكاري لتجارب انتقاها أسعد عرابي من نتاجه الممتد ما بين 2007- 2017، ليجمع ما فرّقته السنون ما بين اتجاهات ومدارس وانزياحات واختبارات، هي بين التصويري بالمعنى التشخيصي، والتجريدي بالمعنى اللاشكليّ الارتقائي، من دون إثارة انقلابات جذرية أو ضجيج، ذلك لأن المنحى الواقعي في أسلوبه ليس عيانيّاً وَصفيّاً أو استقرائيّاً، وإنما هو استذكاري وتلقائي ذو جذور عاطفية تصحو على ما تسرب من جيوب الزمن، وتسعى إلى التقاطه وتسجيله وإلباسه ثوب الراهن المتخيّل بناء على استعادة المعايشة والاستمتاع بالأشياء التي تراها العين كما لو أنها للمرة الأولى، وهي ليست إلا عين الغائب العائد إلى اكتشاف أطلال الذاكرة. وقد تستفيق هذه الأطلال على صوت كوكب الشرق أم كلثوم التي خصّها عرابي بمجموعة من الأعمال ظهرت ما بين عامي 2010- 2011، درس فيها وقفتها الأسطورية وأداءها وفرقتها الموسيقية، بأسلوب تعبيري بعيد من الإغراءات البراقة للموضوع الذي عرف صعوده في الايقونية العربية المعاصرة. بين التذكّر والنسيان، ثمة خيط من رواية تظل ناقصة ومُغرية في نقصانها، عن حال هو بين الحنين والتأجج، والتأمل والتفكّر بما آلت اليه هذه الذاكرة من خراب ووجع وفقدان لأقبية المكان المحلوم الذي لم يعد موجوداً سوى في مشاهد متقطعة بين الحلم والحقيقة. لذا الحاجة إلى الاستدعاء للتفاصيل الحميمة التي شكّلت الوعي الأول بالمدينة والعائلة والحواري القديمة والعادات والتقاليد، وبالتالي إلى تشكيل جديد الذكريات، بطريقة حسيّة تردم الهوة بين المُغترَب النفسيّ القائم بين الماضي والحاضر، لا سيما بعدما تعدّت مسألة الغربة الإقامة والعيش والعمل في باريس، نحو اغتراب الوطن عن نفسه وماضيه وأرضه وناسه. هكذا تبدو حال الامحاء طبيعية في ثورة أسعد عرابي على التشخيصية التي يأخذها نحو نسيان كل ما ليس له علاقة بفضاء اللوحة كمنجز تشكيلي بصري يقوم في شكل أساسي على العلاقات المتضادة بين الألوان وطرائق تصادماتها المدويّة والتشييد الهندسي الموهوم لبنائيات خطوطية توحي بأنها أحجيات مكانية مختلطة في هندستها الفوضوية وزخارفها البيانية. هكذا تتراكم البيوت وهي تسند بعضها بعضاً «في غبطة مستكينة تجمع في دعتها الساكن والمسكون... ويحتل الباب دوراً أساسياً في تخطيط الفراغ داعياً المُشاهد إلى عبور عتبة المرئي إلى مساحة الأسطورة والحلم». لذا يتحدث أسعد عرابي عن غلبة الألوان الساطعة المستعارة مجازياً من تقنيات الزجاج المعشق ثم ممارسته من قبل الفنان التجريدي الفرنسي جان بازين، وكذلك عن اتجاهين اثنين في مساره، مسار التعبيرية الألمانية ومؤثرات التراث العربي. ولئن كانت لوحة أسعد عرابي حداثية بامتياز، فذلك لأنها تنتمي إلى حقبة مهمة من الأنطولوجيا المكانية ذات الميزة التراثية التي يحفل بها التشكيل العربي (لا سيما في العراق ومصر وسوريا وسواها)، لكنها تظل متفردة في منحاها التعبيري والوجودي والإنساني، من دون أن تدين إلى مظاهر الجمالية بشيء، وإنما تتحقق في توجهاتها من قوة التحوير الخطوطي وتشوهاته واعوجاجاته فضلاً عن كثافة التلطيخ اللوني بتموجاته وعواصفه وحرائقه. إذ تتلوى الأشكال تحت ضرباتهما العنيفة لتنقل فواجع الانسانية في حروبها ونزاعاتها من اجل البقاء، لذا فهي في إسقاطاتها تتبدى على نحو من الغريزية البدائية الشبيهة بمقاربات التشخيص في فن الكهوف بطقوسه وسرابه وعلاقاته (قامات داروينية شبه حيوانية). تلك العلاقات التبادلية بين الكائن البكر ومحيطه، تتخطى العلاقات بين الرجل والمرأة إلى طقوسية العلاقة مع الحيوان والطبيعة والكون ونظام الوجود، فضلاً عن أن التحوير الجسماني والسخرية والتضمين، وهي من خصائص غالبية التعبيريين المحدثين في الغرب وما بعد الحداثيين. وإذا انطلقنا من تعبيرية الفنان الطليعي فاتح المدرّس وعلاقتها بالسطح والفراغ والكتلة في تقاطعاتها الاختزالية المدهشة بأمواجها الزرق وبقاعاتها الترابية والحمراء، فإننا نصل مع أسعد عرابي إلى ما يكمّل هذه التعبيرية ويتخطى جمالياتها الحداثية، إن لم نقل يمشي على حطامها، في سبيل إظهار المضامين الإنسانية للواقع الأكثر بشاعة وبؤساً وتقهقراً وتعقيداً.