عندما يصبح عصر اللامعقول معقولاً يُساق رئيس مصر السابق حسني مبارك ونجلاه علاء وجمال الى سجن طره الشهير في القاهرة حيث يتواجد أركان النظام السابق من رئيس الوزراء أحمد نظيف الى صفوت الشريف الى كافة الرموز الباقية من عهد مبارك. وشكل هذا التطور «صدمة» إيجابية لدى الرأي العام المصري والعربي وحتى العالمي، إذ أن الأمر أصبح سابقة من نوعها تؤكد للمرة الأولى في العالم العربي تخصيصاً، أن المحاسبة ضرورية على كل من ارتكب الجرائم من مختلف الأنواع الجرمية والمالية وكافة أنواع الفساد. من أصدر هذا الحكم؟ من حيث الشكل النائب العام المصري. وفي المضمون محكمة ميدان التحرير المنعقدة باستمرار والتي رابطت كل هذا الوقت في الميدان للتأكد من تنفيذ المحاسبة والمساءَلة. ولعل الهتافات التي أُطلقت أخيراً من قبل شباب الميدان ضد رئيس المجلس العسكري الأعلى المشير حسين طنطاوي، متهمة إياه بالتواطؤ الأمر الذي سرّع قرار إحالة حسني مبارك الى المحاكمة مسبغاً على محكمة ميدان التحرير صدقية معينة من أن المجلس العسكري الأعلى لا يحابي الرئيس السابق ولا يقدم التغطية للمخالفات التي ارتكبت على مدى ثلاثة عقود ويزيد. ودون ابتسار لنتائج محاكمة مبارك ونجليه فإن لائحة التهم الموجهة إليه طويلة من ارتكابات مالية غير مشروعة الى إعطاء الأوامر لإطلاق النار على المتظاهرين مع بداية الانتفاضة، وربما انتهى الأمر بتسوية ما، لإنقاذ رأس النظام، فإن مجرد إحالة مبارك الى المحاكمة ووضعه في السجن، بعد الخروج من المستشفى هي الحدث الأبرز. ولعل إصرار مبارك على البقاء في شرم الشيخ مع عائلته تحت الإقامة الجبرية اعتقاداً منه أن الأمور لا يمكن أن تبلغ هذا التطور المثير للدهشة وللإعجاب، أن في مصر قضاء وأن محكمة الرأي العام تحاسب كل مرتكب أساء الى استخدام السلطة والى المال العام واستهدف المواطنين في صميم روحهم الوطنية بعد معاناة القهر والقمع لسنوات طويلة. إذاً حسني مبارك ورجال نظامه أمام محكمة الشعب. وكان آخر قرار اتخذه قبل الإعلان عن تنحيه تعيين اللواء أحمد شفيق رئيساًَ للوزراء، وفي محاولة لتخفيف الاحتقان السائد في الشوارع المصرية طرح شفيق ضرورة الحفاظ على الحدود الدنيا في التعاطي مع الرئيس مبارك، وقال: «تذكرون جميعاً كيف أن الملك فاروق غادر مصر بعد خلعه وحظي بكل مراسم التكريم، وعزف النشيد الوطني (الملكي في حينه). فعلى الأقل علينا المحافظة على سمعة الرئيس مبارك». وكانت صيحته بلا جواب، حيث توالت «محكمة ميدان التحرير» عقد جلساتها رافعة الشعار الشهير والذي أصبح شعار المرحلة: «الشعب يريد تغيير النظام». هذا التطور مع شواهد أخرى متعددة تطرح أهمية الدور الذي انتزعه شباب الانتفاضة في ما بات يعرف ب «ثورة 25 يناير» إذ حملت المعلومات الواردة من الميدان وجود اختلافات بين أوساط شباب الثورة بين من يريد البقاء في الميدان حتى تحقيق جميع المطالب، وفريق آخر يعتبر أن مطالبه تحققت ومنطق الأمور يفرض انسحاب الشباب من الميدان والعودة الى دورة الحياة العامة ومواكبة الإصلاحات والتغييرات التي هبت على مصر في إعصار غير مسبوق. وتكتسي خطوة الشباب البقاء في ميدان التحرير بعض المحاذير ومنها الخوف من استهداف الثورة من جانب أعداء لها أو ما يعرف ب «الثورة المضادة»، إضافة الى الخلاف الذي بدأ يسود الأوساط الثورية من حيث طبيعة المرحلة الآتية، وإذا كان مجلس الشعب (سابقاً) هو مصدر جميع السلطات فالآن تم تجيير هذا الحق الى الشعب المرابط في الميادين والساحات العامة، ومسؤولية حماية قرارات «هذه المحكمة» واجبة وضرورية، لأن مستقبل مصر في التاريخ المعاصر يكتب الآن من جديد، بعد ثورة 23 تموز (يوليو) من عام 1952. وستشهد مصر في الأشهر القليلة المقبلة العمل على وضع التغييرات في إطارها الدستوري، ويأتي في طليعة ذلك الانتخابات الرئاسية المقبلة، حيث يبدو، حتى الآن على الأقل، أن عمرو موسى سيكون «نجم هذه الانتخابات نظراً للتاريخ العريق في العمل القومي والسياسي كوزير سابق للخارجية المصرية، أو كأمين عام للجامعة العربية، حتى تنتهي ولايته الرسمية الشهر المقبل. هذا عن مصر لكن ماذا عن باقي الثورات والانتفاضات الشعبية والتي تتابع تجوالها في العالم العربي؟ في سورية: يتضح يوماً بعد يوم مدى خطورة ما حدث وما يمكن أن يحدث. ويؤشر الى أن ما يجري يمثل التحدي الأكبر للرئيس بشار الأسد ولنظامه. خصوصاً أن التظاهرات انتشرت في مختلف المحافظات السورية. وما نعرفه حتى الآن، رسمياً، «أن سورية تتعرض لمؤامرة خارجية». وكشفت الاعترافات المتلفزة عبر التلفزيون السوري عن وجود قرائن محددة لاستهداف النظام وبخاصة لجهة توجيه أصابع الاتهام الى «فريق سياسي لبناني» في «تيار المستقبل» مع الذهاب الى حد الكشف عن ضلوع بعض الأشخاص للعمل على إسقاط النظام. وسيكون لهذه الاتهامات في الخطأ أو الصواب، في التهم المعززة بالوقائع أو «هو عمل مخابراتي» كما يقول هذا الفريق المتهم، سيكون لهذه التداعيات أثر كبير على صعيد مستقبل العلاقات اللبنانية – السورية. والملاحظ حتى الآن امتزاج القضايا المطلبية التي تتظاهر من أجلها مجموعات سورية. مع الجوانب السياسية لاستهداف النظام. وعلى صعيد خطة الرئيس بشار الأسد وأركان النظام في المواجهة تبدو وكأنها محددة بأمرين اثنين: إما التعبير عن «انحناءة» معينة للنظام لكي تمر العاصفة، أو مواجهة الوضع الخطير بقرارات جذرية تتصف بالحسم في «شتى الوسائل المتاحة» للنظام. في ليبيا، تأكد ما ذهبنا إليه منذ بداية اندلاع الثورة، أن معمر القذافي لن يتم «اقتلاعه» بسهولة من موقع القرار، وهو الآن «رئيس طرابلس الغرب». وفي هذا السياق ما زال القذافي في موقع يسمح له بالمناورة والتفاوض، فيما الخلافات تعصف بدول حلف شمال الأطلسي بين مؤيد لمتابعة معركة القصف الجوي وفريق آخر يطالب باعتماد الحل السياسي. يضاف الى ذلك وفي سياق التورط هناك غضب في صفوف الثوار من أن طائرات حلف الأطلسي لا تقوم «بدورها كما يجب»، لذا يجب تكثيف الطلعات الجوية. كذلك يسود الاختلاف في وجهات النظر بين تزويد الثوار بالمزيد من المال والعتاد لما يؤشر من طول فترة المنازلة بين القذافي والثائرين عليه. لكن الأمر المؤسف أن الشعب الليبي هو الذي يدفع الثمن الغالي لهذه المواجهة، فإذا لم يمت الليبيون بالنزاع المسلّح في ما بينهم في الحرب الأهلية الدائرة، مات بالقصف الجوي الأطلسي. ويا للمفارقة فإن منصب رئيس القمة العربية أصبح شاغراً وهو الذي كان يشغله القذافي نفسه والذي هو الآن طريد العدالة من شعبه، وطريد العدالة الدولية في جانب آخر. ومن تداعيات هذا الأمر اندلاع الخلاف بين العراق وعدد من الدول العربية ومن أبرزها دول مجلس التعاون الخليجي على خلفية إصرار بغداد على انعقاد القمة العربية فيها في العاشر من أيار (مايو) المقبل، فيما تصر دول مجلس التعاون على ضرورة تأجيل انعقاد هذه القمة. ويضاف هذا التوتر الى سائر التوترات الأخرى التي تعصف بالعالم العربي من أقصاه الى أقصاه، حيث يقول العراق انه انفق مبلغ 450 مليون دولار استعداداً للقمة العربية، وأن التأجيل سيُلحق أضراراً كبيراً بالعمل العربي المشترك أو ما بقي منه. ووسط كل هذه الأجواء تتخذ المواجهة العربية – الإيرانية أبعاداً كثيرة من التشنج والاحتقان، وأخطر ما فيه اللعب والتلاعب بالشؤون الطائفية والمذهبية المدمرة للشعوب وللكيانات. وفي المحصلة النهائية لواقع حال الأمة في هذا الوقت بالذات تواصل المرجل الكبير في الغليان واستمرار البراكين الشعبية المتفجرة التي تلقي بشظاياها وحممها في شتى الاتجاهات وفي مختلف اللغات واللهجات التي ترتدي في أعماقها آفات التمييز الطائفي والمذهبي. وعلى صعيد ردود الأفعال لما تشهده المنطقة من أحداث جسيمة، أظهر استطلاع أجرته جامعة ماريلاند الأميركية «أن الثورات الشعبية في العالم العربي أدت الى تحسين صورة العرب لدى الرأي العام الأميركي، وعلى الأخص صورة المصريين بعد سقوط رئيسهم حسني مبارك». كما أظهر الاستطلاع نفسه أن 36 في المئة من الشعب الأميركي بات ينظر بإيجابية الى الشعوب العربية عموماً والى المصريين خصوصاً بنسبة 70 في المئة. وفي سياق متصل قالت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون «إن شتاء المنطقة العربية أصبح دافئاً». هذه شهادات «حسن سلوك» من الدولة الكبرى، فما هي مشاعر أهل المنطقة حيال ما يحدث في دولهم، حتى لا تبقى آراء الخارج هي الطاغية على آراء الداخل. * إعلامي لبناني