هذه السنة لها مذاق خاص، ممتزجة بشيء من المرارة، ذات كثافة أعلى بأحداث متوالية آخذ بعضها برقاب بعض، فهي سنة بتركيز سنوات، ليس لها سابقة من سِنيّ هذا القرن الهجري الجديد، تسارع فيها إيقاع الحياة، كشفت هذه الأحداث بتسارعها ومفاجآتها غير السارة لبعضهم، عن أناس من أصحاب الهوى المتلونين، بعضهم محسوب على تيارات محافظة أو إسلامية، وبعضهم محسوب على تيارات يسارية، هؤلاء المتلونون لم يتغيروا في منهجهم الذي يقوده الهوى وحظوظ النفس والنفعية، ولكنهم تبادلوا الأدوار، وتسالخوا الجلود، فلبس كل واحدٍ جلدَ خصمه، فمَن كان يعيِّر غيره بفكرةٍ أصبح اليوم يتبنّاها ويدافع عنها، ويفزع إليها ترهيباً وترغيباً. لم يَبق أحد من هؤلاء النفعيين في مكانه حيث تركتَه، التفتْ شمالاً أو يميناً ستجد أن الصورة قد انقلبت، فمن على اليمين أصبح على الشمال، وكذا مُقابِلُه! تتساءل: أين ذهب عقله وفِكرُه وما يدعو إليه وما يُحذِّر منه؟! حقيقةً لم يتغير عليه عقله، ولكن بوصلة المنفعة توجّهت وجهةً أخرى، فاقتضى الأمر أن يغير من منطقه وحجته. كان من السهل على الواحد من هؤلاء المتأرجحين أن يتهم غيره بتسييس الدين، وبتهمة التشغيب على رأي الجماعة ومن يُصدَر عن رأيهم من العلماء والحكماء، لكنَّك اليوم واجدُه قد لبس ذاك اللباس نفسه، متبنِّياً الفكرة ذاتها التي كان قد جعلها في زمن مضى شاهداً لاتهام الآخرين بتهمة التسييس! فمثلاً: حذّر بعض رموز الحركات الإسلامية أيام أزمة الخليج الثانية من التدخل الأجنبي الذي يحاول النفوذ بغطاء التحالف لطرد محتلٍّ أو حماية حدود، ومع أن هذا التحذير كان مستنداً إلى قراءة استشرافية للمستقبل، وإلى ما كُتِبَ من دراساتٍ غربيةٍ تخطط لذلك منذ أمد بعيد، إلا أن هناك مَن سخر من هذا التحذير واتَّهم صاحبه بتسييس الدين، وبالتحريض والمبالغة والتهويل واللعب بلغة العاطفة. ثم دالت الأيام دولتها، فإذا هو اليوم بعد أن تتابعت الثورات وأصبحت تتهدد كثيراً من الأنظمة العربية، أخذ صاحبنا باللغة التي كان يسخر منها، ومارس الدور نفسه الذي كان يراه في غيره تسييساً وتهويلاً، ولبس اللباس نفسه، الآن دخل مفرداتِ خطابه (التدخل الأجنبي) (المؤامرة الخارجية)، لكنه لا يرى في خطابه أي تسييس للدين ولا تهويل ومبالغة، مادامت النفعية تقتضي ذلك، وأن مصالحه الشخصية تستوجب كهذا الخطاب، وهذه المفردات التي كانت في زمن مضى تهمة يُحاكم عليها الآخرون، ولو تأملت لوجدت أن التهمة عليه ألصق، وأن التهويل والمبالغة في خطابه أبلغ وأقبح. صاحبنا هذا، لم يكن لقوله من شواهد إلا ما كتب من دراسات حول الشرق الأوسط الكبير، لا يعنيني هنا أن يكون مُحِقَّاً فيما يحذر منه الآن أم لا؟ لكن يعنيني فضح هذه الازدواجية الممجوجة لهؤلاء المتأرجحين حسب توجّه بوصلة النفعية. كذلك (بعض) أولئك الذين كانوا يحذرون من التدخل الأجنبي أيام أزمة الخليج، ويرونه مخططاً لتوسعة النفوذ وإنشاء القواعد العسكرية في الخليج، رأيناهم اليوم يمارسون الازدواجية نفسها في مواقفهم مع أحداث اليوم والأمس، فهم اليوم لم يحذروا ذلك الحذر الذي وجدناه منهم إبان أزمة الخليج، ولم يستنكروا التدخل الغربي اليوم في ليبيا كما كانوا يستنكرونه من قبلُ، لم يجرؤا أن يقولوا: إن هذا التدخل العسكري الغربي ظاهره إسقاط نظام طاغية يقتل شعبه، وباطنُه الطمعُ في الثروات وتأمين الطريق لعميل جديد أكثر ولاءً، هنا اختلفت لغتهم، وافتقدنا منهم هذه المفردات (تدخل أجنبي) (مخطط استعماري جديد)، هذا (البعض) من هؤلاء وأولئك تبادلوا الأدوار نفسها، وتقاذفوا التُّهَمَ ذاتها، وتبدلت مواقفهم تبعاً لأهوائهم. تأمل كذلك مفردة (نظرية المؤامرة)، تجد من كان يعيّر بها غيره بالأمس، صار يؤمن بها اليوم كإيمان أولئك بها أو أشد! وقد قيل من قبل عن أحداث خطيرة وقعت: إنها مؤامرة نسجت خيوطها من بعيد، فيجب مقاومتها والحذر منها، فكان هذا النفعي يضحك منها ويسخر من أصحابها بأنهم مصابون بفوبيا المؤامرة، وها هو اليوم رجع عما كان يدعو إليه من قبل، ودبَّ إليه هذا الداء (عقدة المؤامرة)، وربما عن قصد، ليتخذها فزّاعةً يخوِّف بها حمايةً لمصالحه، وكما في المثال الأول: لا يعنينا هنا من المُحِق من المبطِل، وإنما يعنينا فضح الازدواجية وحسب! ولعلنا نخرج بعد هذا كله بقناعة أن من السهل جداً رمي الخصوم بالتهم المعلبة، ولكن من الصعب جداً الثبات على المبدأ والمنهج دون تقلُّبٍ بحسب بوصلة المنفعة.. وهداكم الله أيها النفعيون. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]