في الوقت الذي تشارف الحرب ضد الدولة الإسلامية على النهاية في محافظة دير الزور وفي مدينة «البوكمال» الاستراتيجية تحديداً، بدأت تتكشف المصالح الحقيقية والمتناقضة لللاعبين الدوليين والإقليميين، والتي تؤكّد أن كل ما يجري طرحه والإعداد له من مؤتمرات في الرياض، أو جنيف، أو سوتشي لن يفضي إلى الحلّ السياسيّ المنشود للأزمة السورية. ولو راجعنا مواقف مختلف اللاعبين في مسرح العمليات السوري لأدركنا مدى صعوبة إيجاد أرض مشتركة بين مختلف القوى على المستويين العسكري والسياسي، وأن تعدّد المسارات المطروحة ما هو سوى محاولات مكشوفة لقتل مسار التسوية في جنيف، من أجل الاستئثار بالحلّ السياسيّ الذي يحقّق المصالح الروسية والإيرانيّة في سورية، وبالتالي الحفاظ على بقاء حليفهما بشار الأسد على رأس النظام في دمشق. تؤشّر مختلف المبادرات الروسية في آستانة وما نتج عنها من مقرّرات حول إقامة مناطق «خفض التوتر» في سورية، وبمشاركة كاملة من إيرانوتركيا، بالإضافة إلى مسعى روسي إلى عقد اجتماع ل 1500 شخصية سورية في سوتشي ليوم واحد بعد أن عدّلت مشروعها الأساسيّ لعقد هذا الاجتماع تحت شعار «اجتماع الشعوب السورية»، والذي كان من المفترض أن يضم شخصيات سياسية مقرّبة جدّاً من النظام السوري، وأحزاباً معارضة «وهمية» من الداخل السوري، بأن روسيا تسعى إلى الاستئثار بالحلّ السياسيّ، خصوصاً أن نجاح محاولاتها هذه سيعطيها بالاشتراك مع النظام السوري اليد العليا على الأرض، والحق بالمطالبة بخروج القوات الأميركية الموجودة في شمال شرقي سورية، من خلال الطعن بشرعية وجودها على الأرض السورية. على خط موازٍ لتمسك روسيا بالحفاظ على مكاسبها وقواعدها الخمس الدائمة في سورية، فإن التصريحات شبه اليومية الصادرة عن أعلى القيادات الإيرانيّة تؤكّد أن طهران باقية في سورية، وأن الادعاءات الروسية بأن القوات الإيرانية ستنسحب بعد الانتهاء من تفكيك «داعش» و «النصرة» ما هي سوى عملية ذر الرماد في العيون، حيث تكرّر طهران أن وجودها شرعي، ويستند إلى طلب رسميّ صادر من الرئيس السوري. وبدأت طهران بالفعل في تعزيز وجودها، وذلك من خلال إقامة قواعد عسكرية دائمة، كالقاعدة التي أظهرتها صور الأقمار الاصطناعية قرب مدينة «السخنة» جنوبدمشق والتي نشرت صورة لها محطة «بي بي سي» البريطانية. في مقابل الموقفين الروسي والإيراني، ما هي مواقف اللاعبين الآخرين مما يجري في سورية، ومن المسارات الديبلوماسية التي تحاول روسيا تسويتها من أجل تعطيل المسار الدولي في جنيف؟ يبدو أن الولاياتالمتحدة باتت متمسكة بوجودها العسكري في سورية والعراق، في ظلّ الاستراتيجية الجديدة التي اعتمدتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، والتي تخلّت نهائياً عن تجاهل إدارة الرئيس باراك أوباما السابقة تدخل الحرس الثوري والميليشيات الإيرانية في سورية، مع تركيزها الكامل على تدخُّل الميليشيات «الإسلامية المتطرفة»، والتي أدّت إلى تمدُّد النفوذ الإيراني في سورية والعراق ولبنان. كما يؤكّد فشل البرنامج الذي اعتمدته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركيّة لتدريب وتسليح بعض المنظمات المعتدلة في المعارضة السورية، إلى أن واشنطن لم تكن راغبة في الانزلاق إلى «المستنقع السوري» وفق التوصيف الذي اعتمده أوباما، في تعليقه على التدخل العسكري الروسي في أيلول (سبتمبر) 2015. اقتصر التدخل الأميركي في سورية على التعاطف مع الحركات المسلحة الكردية، خصوصاً «قوات حماية الشعب الكردية» والتي تحوّلت لاحقاً إلى «قوات سورية الديموقراطية» بعد انضمام عدد من مقاتلي العشائر السورية إلى صفوفها، وشكّل هذا الدعم الأميركي للأكراد بدءاً من معركة عين عرب «كوباني» ووصولاً إلى معركة الرقة ودير الزور، متغيراً هاماً في مسار الحرب، وتوسيع نطاق السيطرة الكردية على محافظات في الشمال والشمال- الشرقي السوري. شجّع الفراغ الذي تسبّبت به سياسة أوباما في المسرح السوري الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التدخل عسكرياً من أجل إنقاذ نظام بشار الأسد من الانهيار بعد النجاحات السريعة التي حققتها قوى المعارضة المسلحة على جميع الجهات، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، خلال عام 2015، وكان لهذا التدخُّل الروسي الجوي مفاعيله السريعة على الأرض، حيث تغيّرت المعادلة الميدانية لمصلحة قوات النظام والقوات الإيرانية المتحالفة معها. في ظلّ التراخي الأميركي، وعدم وفاء أوباما بالخطوط الحمر التي رسمها لاستعمال النظام لسلاحه الكيماوي، وبسبب التدخل الروسي والإيراني الكثيف اندفع النظام في معركة «على مراحل» لاستعادة الأراضي التي خسرها في السنوات الأربع الأولى للحرب، وبدءاً من المدن الرئيسية، حيث شكّلت معركة استعادة حلب منعطفاً أساسياً في مسار الصراع. ساهم التخبّط في التوجّه الأوروبي تجاه ما يجري في سورية تحت تأثير غياب التدخل الأميركي الفاعل. وفي ظلّ التبدّل الاستراتيجي والميداني الذي أحدثته القوات الجوية الروسية. في تعزيز موقف نظام بشار الأسد. بدأت الدول الأوروبية، التي أظهرت في البداية حماسة ودعماً لدعوات المعارضة السورية إلى تغيير النظام في دمشق بالتراجع عن مواقفها. وكان أول المتراجعين الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي عبّر أثناء حملته الانتخابية في نيسان (أبريل) الماضي عن تراجع فرنسا عن مطالبتها برحيل الأسد، وتبعه في هذا التراجع وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، الذي قال بإمكان مشاركة بشار الأسد في أيّ انتخابات مقبلة. كما أحدثت تصريحات الموفد الدولي ستيفان دي ميستورا إحباطاً كبيراً للمعارضة من خلال دعوته لها باعتماد «الواقعية» وإدراكها بأنها لم تربح الحرب. وهكذا فإن الموقف الدولي العام قد تغيّر، حيث بات يعكس نيّة الإبقاء على بشار الأسد على رأس النظام السوري في أيّ تسوية مقبلة، وبأن على المعارضة أن تتعامل مع أيّ تسوية انطلاقاً من هذه المعادلة السياسيّة الجديدة. في ظلّ المتغيّرات الدولية تجاه الأزمة في سورية، وفي ظلّ تبدّل موازين القوى على الأرض بفعل التدخّل الروسي والإيراني، يضاف إليها اندلاع الحرب في اليمن، والذي أدّى تدريجاً إلى تماهي الموقفين السعودي والعربي العام مع الموقف السياسي الدولي أمام المبادرات الروسية على الأرض وفي آستانة. وكان من الطبيعي أن يتأثر الموقف الأردني بتراجع الدعم العربي للثورة، حيث بدأ الحديث عن ضرورة نسج علاقات إيجابية وإجراء عمليات تنسيق أمنية مع النظام السوري. لجأت تركيا بعدما فشلت في إقناع الولاياتالمتحدة بالتخلي عن دعمها قوات حماية الشعب الكردية، والتي تتهمها أنقرة بأنها تشكّل امتداداً لحزب العمال الكردستاني، إلى التعاون مع المخطط الروسي، وهذا ما سمح بتغيير مواقفها من نظام الأسد، كما فتح لها الباب لدخول الأراضي السورية واحتلال شريط من جرابلس إلى مدينة الباب، والتمدُّد لاحقاً باتجاه محافظة أدلب وحصار جيب عفرين الذي تسيطر عليه القوات الكردية، وهي تتحيّن الفرص للانقضاض عليه. تستمر إسرائيل في رفض كل الترتيبات الميدانية على الأراضي السورية وتصرّ على امتلاك الحق في التدخُّل بحرية بحجة الحفاظ على أمنها القومي من التمدّد الإيراني وتجذرّه على الأرض في مناطق قريبة من خط الفصل في الجولان. كما أنها تحتفظ بحرية العمل على منع «حزب الله» من تطوير ترسانته الصاروخية بدعم سوري وإيراني. في ظلّ هذه التعقيدات التي تسيطر على المشهدين الميداني والسياسي في سورية لا يمكن مؤتمر جنيف المتوقع انعقاده في 28 الشهر الجاري أن يحقق أي نتائج إيجابية على مسار البحث عن حلّ سياسيّ: فالحلّ يتطلب فعلياً توافقاً سياسياً كاملاً بين روسياوالولاياتالمتحدة، يؤدي إلى الضغط على النظام وحليفته إيران للقبول بتقديم تنازلات في موضوع انتقال السلطة، وعلى المعارضة للقبول بالصيغة السياسية المتوافق عليها دولياً. لكن، يبدو أن الحلّ لم ينضج بعد، وهذا ما تؤشّر إليه الضغوط الروسية على الوجود العسكري الأميركي باعتباره غير شرعي، طالما أنه لا يحظى بقبول النظام. في رأينا لن يتعدى الوجود العسكري الأميركي في سورية مستواه الراهن، حيث تبقى الأولوية للوجود العسكري في العراق، ويستدل على ذلك من تلكؤ إدارة ترامب في بلورة استراتيجية عسكرية جديدة تجاه سورية. والسؤال: ماذا لو خضعت أميركا لضغوط النظام وحلفائه وقرّرت الانسحاب من سورية، وذلك تحت عنوان «نفذت المهمة» بعد تفكيك الدولة الإسلامية؟ سيؤدي هذا الانسحاب إلى إنهاء الصراع لمصلحة النظام وكل من روسياوإيران، ولكنه لن يجلب السلام والاستقرار للشعب السوري، حيث ستبقى سورية مقسّمة إلى مناطق نفوذ تسيطر عليها القوى الإقليمية والدولية. وسيؤدي ذلك حتماً إلى لجؤ الأكراد إلى طلب الحماية الروسية وإلى طلب العشائر العربية الصلح مع بشار الأسد. * باحث لبناني في الشؤون الاستراتيجية