رواية يوسف زيدان الجديدة، الصادرة عن دار الشروق المصرية في طبعات عدة متتالية، «النبطيُّ» روايةٌ رمزية تسرد حكايةَ دخول العربِ مصرَ عام 639 م. البنتُ المليحة «مارية»، العذبةُ الوادعةُ ابنة الثمانية عشر عاماً، التي تجد سلواها في تمشيط شعرها المموّج الجميل، ثم جدله في ضفائر طويلة، وتتحايلُ على وحدتها بإطالة النظر في عيني عنزتها اللتين تحتشدان بالكثير من القول والكلام، هي مصر. الصبيةُ الغضّة مارية المصرية، هي مصرُ القبطية، قبل أن يفتحها العربُ ويستخلصوها لأنفسهم من يد الرومان، فيتحول لسانُها من القبطية إلى العربية. هكذا قرأتُ رمزيةَ الرواية. ثم هي صبيةٌ شابة، على رغم أن عمرها خمسون قرناً، ربما تماشياً مع قصيدة أحمد فؤاد نجم: «مصر يا أمّة يا بهيّة/ يامّ طرحة وجلابية/ الزمن شاب وانتي شابة/ هو رايح إنتي جاية»... حيث «شابَ» فعلٌ ماض للفعل «يشيب»، بينما مصرُ «شابّةٌ» لا تشيخ أبداً. نُبحر مع مارية في رحلة حياتها التي قسّمتها الروايةُ أقساماً ثلاثة. الحياة الأولى: تبدأ برصد تفاصيل حياة الفتاة مارية المصرية ويومياتها أثناء الحقبة القبطية في مصر، ستة قرون، ثم انتظارها، وانتظار أسرتها معها، ذلك الخاطب القادم من بلاد العرب ليتزوجها. تماماً مثلما ظلت مصرُ تنتظرُ فاتحيها وغُزاتها، فاتحاً بعد فاتح، وغازياً في إثر غازٍ، على مدى تاريخها الطويل. فطالما كان الجمالُ نقمةً! ذلك أن جغرافيتها الفريدة، بموقعها وخصبها ونبلها الفريد، وكذلك حضارتها العريقة الضاربة في قلب الزمن، جعلتها دائماً محطَّ أعين الغزاة وشغف مطامعهم الذي لا يهدأ. الحياة الثانية: الرحلةُ الطويلة الشاقّة التي قطعتها مارية مع زوجها العربي من مصرَ/ وطنها، إلى شمال الجزيرة العربية/ وطنه. والرمزُ هنا يقول إن البنتَ ذهبت إلى بلاد الفاتح محمّلةً بالفضول والتشوّف، والكثير من التوجّس، من أجل معرفة طبيعة هذا الفاتح الجديد وثقافته وأسلوب حياته. الحياة الثالثة: حياة مارية سنواتٍ عشراً بين ركام حضارة الأنباط العرب الغابرة. هنا تبدأ مارية/مصرُ، في تشرّب ثقافة زوجها/ الفاتح، الغريبة عنها، وتدرس تكوينه الفكري والاجتماعي. وبعد انقضاء تلك المدّة، تعود مارية/ مصر الرمز، مع زوجها الفاتح/الغازي، إلى مصر/ الوطن، فيدخلوها فاتحين أو غزاةً (سمِّها ما شئت)، مع حملة عمرو بن العاص الذي هام شغفاً بمصر، ليغيّروا هويتَها وثقافتها وعقيدتها ولسانها وكاملَ مستقبلها. في الحياة الأولى تعرف مارية أن كل شيء في الدنيا له أسماء ثلاثة: واحد باللغة القبطية، لغتها الأم، والثاني باللغة الرومانية، لغة المستعمر الراهن آنذاك، والثالث بلغة العرب، لغة التجار الذين يرتادون مصر بتجارتهم على نحو منتظم، والذين سيغدون عمّا قريب الغزاةَ الجدد. ومثلما تتجاور الألسنُ في المعاجم، من دون صراع، لتعريف الشيء الواحد، يمكن أن تتجاور الدياناتُ والمعتقدات في الأسرة الواحدة من دون صراع أيضاً، بل في تناغم رفيع مدهش. أظن هذا هو الدرس الأهم في هذه الرواية الجميلة. فنجد أشقاء ثلاثة، أحدهم مسيحي؛ سلامة زوج مارية، والثاني يهودي، والثالث هو النبطي الصامت الذي ينتظر الاشارة، يرجو منها استعادة مجد الأنباط وإحياء هويتهم الغابرة، بعدما جرفت السيولُ مضاربَ أجدادهم فيتسيّدهم العرب، بينما أمهم، أم البنين، وثنيةٌ تعبد إلات. على أن أربعتهم يعيشون معاً في سلام راق ومحبة لا غبار عليها؛ يحترم كلٌّ منهم عقيدة الآخر، وخصوصيتها، بل ويتمازحون أحياناً في ما بينهم حول الأمر في بساطة ورقي. ولعل هذا هو الدرس الذي يجب أن يتعلمه المصريون الآن، لكي ننجو من المنعطف الخطير الذي تمر به مصر الآن من طائفية ترمي بكارثة هنا ومذبحة هناك، بين الحين والآخر. بمجرد أن تشاهد مارية خطيبَها سلامة، تعرف أنه ليس فارس أحلامها، وأنها لن تقدر على حبّه أبداً. تُفضِّل عليه شقيقه «النبطي» الصموت المتأمل، الذي يعتزل الناس في خلوته انتظاراً للنبوة التي لا تجيء. حتى أنها في نهاية الرواية، لحظة إقلاع القافلة التي تحملها عائدةً إلى الوطن مصر مع الفاتحين، تنظرُ وراءها وتقول: «هل أغافلهم، وهم أصلاً غافلون، فأعود إليه، لأبقى معه، ومعاً نموت، ثم نولدُ من جديد هُدهدين». وربما تعمّد المؤلفُ ألا يضع علامة استفهام (؟) في نهاية هذا السؤال، لتقف الجملةُ على الخط الحرج بين الجملة الخبرية والإنشائية، فتكرّس غموضها. في الحياة الثانية نتعرف على الرحلة الطويلة الشاقة التي قطعتها مارية مع زوجها وقافلته من وطنها مصر إلى الجزيرة العربية على ظهر حمار سبّب إنهاكها، وتوقفها عند الأديرة التي تعرفت في أحدها على مارية القبطية التي سيتزوجها الرسول في ما بعد. خلال تلك الرحلة، تبدأ في تعلّم عادات العرب، التي تختلف عن عادات المصريين، فتدرك أنها، كامرأة، محرومةٌ من أشياء طيبة وبريئة يتمتع بها الرجل، مثل النزول في البحر، هبةُ الله للأرض، فتقول لنفسها، وهي ترقبُ زوجها بحسد وقد غطّت جسده الأمواج، بينما جسدها متكوّم تحت طبقات الأردية السوداء الكثيفة: «حظُّ الرجال من الحياة، أوفرُ من حظ النساء». في الحياة الثالثة تعيش مارية حياةً تختلف عن حياتها المصرية القبطية التي كوّنت طفولتها وصباها. ومثلما تعرّفنا على طبيعة حياتها المصرية في الحقبة القبطية، نتعرّف معها نحن القراء، على بقايا حضارة الأنباط في المنطقة الواقعة بين الأردن وجزيرة العرب. كيف يعيش أولئك العرب في مضاربهم بثنايا الجبال التي اتخذوها مساكن لهم، أساطيرهم وطرائق علاجهم وطبيعة مأكلهم ومشربهم وطقوسهم اليومية. ذاك هو الخيط المعرفي الذي يحرص زيدان على تضفير أعمالها الرواية به. نعرف كذلك كيف سيحرم سلامة العقيمُ زوجتَه من حلم حياتها، الأمومة، وصبرها على ذلك، من دون حبّ كان سيخفف، لو حدث، من حدّة الحرمان من الطفل. هل في ذلك رمزٌ يقول إن دخول العرب مصر سيقطع عليها خيطَ الهوية الممتد معها منذ الهوية الفرعونية وصولاً إلى الهوية القبطية، فتتحول إلى «عربية»، بعدما انقطع النسلُ المصري؟ ربما. يأمرها زوجُها، بعد دخوله الإسلام، أن تُسلم. ولما تسأله كيف، يأمرها بأن تنطق الشهادتين، ثم يبتسم ويخبرها أنها الآن مسلمة. الرواية، فنيّاً، تنتهجُ تيار الوعي، من حيث الوثب الرشيق بين الواقع والخيال، والجمع بين الشخوص المؤلّفة؛ مثل مارية وعائلتها وزوجها وعائلتها، وبين الشخوص المعروفة تاريخيّاً مثل عمرو بن العاص، ومارية القبطية، إحدى زوجات الرسول، وفروة بن عمرو الخزامي، وغيرهم. تحتفي بالمكان، فيغدو هو البطل في كثير من مقاطع الرواية والمحرّك لأحداثها وشخوصها. نتعرف في الحياة الثانية، الرحلة، على جبل إيل، الذي نشأ عليه إلهُ النبط، وجبل السكاكين، الذي كلّم موسى من فوقه ربَّه سائله أن يراه جهرة، فلما تجلّى له خرَّ الجبلُ خاشعاً متصدعاً على هيئة شظايا صغيرة كأنصال السكاكين، وكذلك نتعرف على الكثير من الكنائس والأديرة المصرية والملكانية والرومانية والنسطورية. كذلك تعتمد الروايةُ اختزالَ الزمن وإطالته تارةً، والوثب بين الحقب والدهور واللحظات والساعات تارة أخرى. احترام خط الزمن وحكي الأحداث في تراتبها الوقتي، ثم إطاحة هذا الاحترام وتهشيم خط الزمن واللعب به. كذلك تفعيل حيلة «المونولوغ الداخلي»، الذي أتقنت لعبَه فرجينيا وولف، وغيرها من رواد تيار الوعي. رسم دائرة متينة من الخيال ثم تكسيرها للخروج منها إلى فضاء الواقع. روايةٌ بديعة تضيف إلى رصيد يوسف زيدان الإبداعيّ المميز، الثري من حيث البناء اللغوي، ومن حيث تضفير التاريخيّ بالإبداعيّ في جديلة إشكالية تمنحه الكثيرَ من المريدين، والكثير جدّاً من المناوئين، وهذا شأن الإبداع الكبير.