علينا أن نعترف منذ البداية بأن الحالة الليبية – إن صح التعبير – مثلها في ذلك مثل النظام السياسي الليبي، بكل سماته الشاذة والخارجة عن المألوف، تمثل معضلة حقيقية للمجتمع الدولي. وترجع المشكلة إلى التساؤلات التي أثارتها أطراف دولية وإقليمية ومحلية متعددة: هل «الانتفاضة» الثورية التي حدثت في بنغازي تمثل بذاتها حدثاً داخلياً يعبر عن صراع جزء من الشعب الليبي ضد النظام الاستبدادي الحاكم بما لا يدعو إلى تدخل أي طرف أجنبي في الموضوع؟ أم هو يثير – كما أظهرت الأحداث الدامية منذ اندلاع الانتفاضة – ضرورة التدخل الإنساني الدولي لإنقاذ أهل بنغازي من الهجوم الساحق لقوات القذافي، الذي كان يمكن، لو حدث، أن يكون فعلاً من أفعال الإبادة، بما كان سيتضمنه ذلك من مذابح للسكان المدنيين، وهو ما يمثل جريمة من الجرائم ضد الإنسانية التي تدعو بالضرورة إلى تدخل دولي إنساني؟ ولعل ما يمثل خصوصية للحالة الليبية ما يجعل الإجابات المباشرة عن الأسئلة المطروحة سهلة المنال. إن النظام السياسي الليبي - بشذوذه وتطرفه - ربما لا يكون له مثيل على وجه الأرض! نظام سياسي نشأ بانقلاب قاده العقيد معمر القذافي ضد النظام الملكي الليبي، سرعان ما تحول إلى نظام قمعي شامل يفوق كل النظم القمعية الراهنة، وأبرزها نظام دولة كوريا الشمالية. فهو على - عكس النظام الكوري الشمالي - ليس فيه حزب واحد يهيمن على المجتمع، ذلك أن العقيد القذافي استطاع أن ينسف كل مؤسسات المجتمع الليبي وأولها الأحزاب السياسية تحت شعار «من تحزّب خان»! كما أنه استطاع بصورة منهجية شريرة أن يلغي كل مؤسسات المجتمع الرسمية والاجتماعية، بزعم أنه حوّل المجتمع الليبي إلى مجتمع جماهيري يحكم فيه الشعب مباشرة من طريق مجموعات متطرفة من أنصاره أطلق عليها «اللجان الشعبية»، التي كان يخضعها للتطهير كل فترة لاتهامها بالفساد أو عدم الكفاءة. واستطاع العقيد الذي أطلق على نفسه أخيراً لقب «ملك ملوك أفريقيا» أن يهيمن على مجمل الثروة النفطية في البلاد ويتصرف بمداخيلها من دون حساب أو رقابة، ويبددها في مغامرات دولية طائشة، وفي دعم حركات ثورية مزعومة وجماعات إرهابية، في الوقت الذي يعاني فيه الشعب الليبي شظف العيش بحكم تدني مستوى الدخل الفردي، وغياب برامج التنمية المستدامة. وحين قامت الانتفاضة الشعبية في بنغازي والتي كانت في الواقع حركة احتجاج سياسية سلمية، واجهها العقيد بالوعد والوعيد، واتهم المشاركين فيها بأنهم خونة و «جرذان» وأنه سيطاردهم من دار إلى دار ومن «زنقة» إلى «زنقة»، حتى يقضي عليهم بالكامل، وأثنى ابنه سيف الإسلام القذافي عليه، وتوعد بإبادة هؤلاء المنتفضين. وقد راقب المجتمع الدولي تطور الأحداث الدامية بقلق نابع من اعتبارات إنسانية، حيث برزت مخاطر شديدة على السكان المدنيين. وبعد فترة ترقب وتردد اجتمع مجلس الأمن وأصدر قراره بإنشاء منطقة حظر جوي فوق ليبيا، وعهد إلى مجموعة دول في مقدمها فرنساوالولاياتالمتحدة الأميركية بتنفيذ هذه العملية، والتي دارت خلافات بين الحلفاء عمّن سيقودها، إلى أن استقر الرأي أخيراً على أن تتم العملية تحت قيادة حلف الأطلسي. غير أن قرار مجلس الأمن وطريقة تنفيذه، أديا إلى تساؤلات متعددة حول صحة القرار. وهذه التساؤلات تعود في الواقع إلى مرحلة نهاية الحرب الباردة، حيث برز مذهبان سياسيان: الأول يدعو الى شرعية التدخل السياسي الدولي، والثاني يحاول تقنين مبدأ ضرورة التدخل الإنساني في حالة تعرض شعب من الشعوب أو جزء من الشعب لأفعال إبادة، سواء من طرف خارجي أو من الدولة نفسها، التي قد تواجه انتفاضات شعبية ضدها، مما قد يدفعها إلى مواجهتها باستخدام أساليب عنف قد ترقى إلى مرتبة إبادة الجنس، وهي إحدى الجرائم ضد الإنسانية التي يعاقب عليها القانون الدولي العام، والتدخل السياسي الدولي مذهب ابتدعته الولاياتالمتحدة حين زعمت حق المجتمع الدولي في تغيير الأنظمة الديكتاتورية التي تمارس القمع السياسي على شعوبها. وفي ضوء هذا المذهب وفي مناسبة حرب الولاياتالمتحدة ضد الإرهاب بعد الضربات الموجعة التي وجهت اليها في الهجوم الإرهابي ضدها في 11 أيلول (سبتمبر)، شنت حرباً ضد أفغانستان، على رغم مخالفة الغزو للشرعية الدولية، ورفض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن تغيير النظام الديكتاتوري العراقي. وقد عرضنا من قبل للتدخل السياسي الدولي وقررنا أنه من أخطر الظواهر التي برزت بعد نهاية الحرب الباردة. وقلنا إنه غطاء - وإن كان مكشوفاً - لتحقيق المصالح القومية للولايات المتحدة على وجه الخصوص. وكان نقدنا جزءاً من حركة نقدية عالمية وجهت إلى خطورة التدخل الدولي ضد سيادة الدول. غير أن التدخل الإنساني لا يثير من المشكلات ما يثيره التدخل السياسي الدولي. فهناك شبه إجماع على أن مسؤولية المجتمع الدولي حماية الشعوب حين تخضع لجرائم ضد الإنسانية، وسواء ارتكبت هذه الجرائم دولة أجنبية ضد دولة أخرى، أو ارتكبتها الدولة نفسها ضد شعبها. والواقع أنه ليس هناك تعريف واحد متفق عليه للتدخل الإنساني. ذلك أن وجهات النظر المستمدة من علم القانون أو من الأخلاق أو من علم السياسة، قد تؤدي إلى اختلافات صغيرة أو كبيرة في صياغة التعريف، والخلافات تعود إلى أسئلة عدة: السؤال الأول والذي تختلف الإجابات عليه، هو: هل تدعو الحاجة الى التدخل الإنساني في غياب الرضى عنه من الدولة التي يوجه إليها؟ والسؤال الثاني: هل ينبغي قصر التدخل على الأفعال المنصوص على عقوبات ضدها؟ والسؤال الثالث: هل ينبغي قصر حالات التدخل الإنساني على تلك التي صدر قرار في شأنها من مجلس الأمن، كما هو الحال بالنسبة الى القرار الخاص بالحظر الجوي على ليبيا؟ ويمكن القول إنه بعيداً من هذه الخلافات الجزئية في الرد على هذه الأسئلة، فإن هناك توافقاً في المجتمع الدولي على أمور أساسية تتعلق بالتدخل الإنساني. الأمر الأول أن التدخل الإنساني يتضمن بالضرورة التهديد باستخدام القوة أو استخدامها بالفعل. والأمر الثاني أنه تدخل في الشؤون الداخلية لدولة ما، وذلك من طريق إرسال قوات عسكرية إلى إقليم الدولة أو إقامة حظر جوي في سمائها رداً على ارتكابات ضد الإنسانية أقدمت عليها، حتى لو لم ترتكب عملاً من أعمال العدوان ضد دولة أخرى. والأمر الثالث أن التدخل الإنساني يتم ليس تحقيقاً لمصلحة استراتيجية للدولة أو الدول المتدخلة، ولكنه يتم مدفوعاً بدوافع إنسانية. وقد دار جدل فكري محتدم في مجال العلاقات الدولية حول شرعية التدخل الإنساني، وخصوصاً بعد تدخل الحلف الأطلسي في كوسوفو عام 1998، حيث برز التعارض بين مبدأين أساسيين من المبادئ التي قامت على أساسها الدول الحديثة وهو أولاً مبدأ سيادة الدولة، وثانياً بروز مبدأ حق المجتمع الدولي في الدفاع عن حقوق الإنسان، حين تتعرض لحظر شديد. ومن الأسئلة الخلافية أخلاقيات التدخل العسكري كاستجابة لمخالفة حقوق الإنسان، ومتى ينبغي أن يحدث التدخل، ومن الذي من حقه التدخل، وهل سيكون التدخل فعالاً أولاً؟ ويرى الموافقون على التدخل الإنساني أن حماية حقوق الإنسان عندما تتعرض للخطر ينبغي أن تكون لها الأسبقية على مبدأ سيادة الدولة. في حين يرى المعارضون أن هذا التدخل هو مبرر مزعوم لتحقيق مصلحة قومية للمتدخلين، وأنه يشكل اعتداء صارخاً على مبدأ سيادة الدولة. والواقع أننا لو حللنا التعليقات التي أعقبت قرار مجلس الأمن بفرض الحظر الجوي على ليبيا وبداية الهجمات الجوية، لوجدنا أن كل الاعتراضات السابقة على التدخل الإنساني قد أثيرت من جديد. فقد قرر بعض المعلقين أن صدور القرار تأخر مما عرّض سكان بنغازي لخطر شديد، لأن قوات القذافي كادت أن تدخل المدينة للتنكيل بالثوار وبالسكان عموماً. ومن ناحية أخري أثير سؤال عن مدى فاعلية الحظر الجوي في القضاء على حكم العقيد القذافي، خصوصاً أنه قرر المقاومة حتى آخر نفس، وأرسل قواته لقصف المدن الليبية الثائرة، وأخطر من ذلك سؤال تردد في المصادر الدولية وهو: ألا يمثل الحظر الجوي بما يتضمنه من ضربات جوية مدمرة أخطاراً شديدة على السكان والممتلكات؟ من هنا يمكن القول ان التدخل الذي تم للدفاع عن سكان مدينة بنغازي من المدنيين، لم يحمِ المدنيين في طرابلس والمدن الليبية التي ما زالت تحت قبضة القذافي من الضربات الجوية التي لا بد لها مهما كانت دقيقة من إسقاط عشرات إن لم يكن مئات من المدنيين قتلى وجرحى. هل كان ينبغي على المجتمع الدولي أن يتدخل حفاظاً على السكان المدنيين في بنغازي وغيرها من المدن الثائرة من هجمات القذافي وقواته، أم أن التدخل في ذاته مثّل أخطاراً مدمرة على مدنيين ليبيين آخرين يعيشون في طرابلس وسرت وغيرهما من المدن؟ سؤال يعبر عن المعضلة التي تمثلها الحالة الليبية، في ما يتعلق بضرورة التدخل الإنساني من ناحية، ومخاطره المحدقة من ناحية أخرى. * كاتب مصري