اعتباراً من اليوم تفتح ملفات المنطقة على مصراعيها ويبدأ البحث الجدي عن مخارج، وتظهر ملامح صورة خريطة التحولات الكبرى واتجاهات الرياح الأميركية والدولية والإقليمية والعربية ونلمس معها مدى جدية الرئيس الأميركي باراك أوباما والمجتمع الدولي في التوصل الى سلام عادل وشامل وسط تساؤلات عن مصير هذا السلام وهويته. واليوم تتصاعد مناورات التضليل الإسرائيلية وحقول الألغام التي تضعها حكومة ائتلاف المتطرفين الصهاينة بقيادة الثنائي نتانياهو – ليبرمان في طريقه. تساؤلات تزامنت مع جولة أوباما الشرق أوسطية وتركيزه على محوري الرياض - القاهرة وخطابه التاريخي في القاهرة ومواقفه الرسمية المعلنة حول قضايا حساسة لامسها بجرأة ولا سيما بالنسبة الى قضيتي السلام بين العرب والإسرائيليين والحوار الإسلامي - المسيحي، ودور الولاياتالمتحدة في محو آثار خطايا عهد جورج بوش. والعالم كله يراقب، والعرب يترقبون الخطوات التالية للإدارة الأميركية وينتظرون مواقف عملية حازمة وجدولاً زمنياً واضحاً وقرارات حاسمة تترجم الأقوال الى أعمال والنيات الى مواقف والرغبات الى إرادة وادارة واضحة عند البحث في التفاصيل، لأننا نعرف أن الشياطين تدخل في التفاصيل، كما يقول المثل الشهير، وشياطين الصهاينة كثر ويتدخلون في كل شاردة وواردة في كل مكان ولا سيما في دهاليز مراكز القرار في الولاياتالمتحدة. كما أننا نعرف أن طريق جهنم مفروشة بالنيات الحسنة في بعض الأحيان في حال عدم نجاح إدارة أوباما في مواجهة المكر الصهيوني بمكر أدهى وأقوى. والأمثلة في هذا المجال كثيرة كان أكثرها وضوحاً القرار الفاضح الذي اتخذه الكونغرس الأميركي خلال زيارة نتانياهو لواشنطن بعد توقيع أكثر من 70 شيخاً مذكرة موجهة الى الرئيس العتيد يحذرونه فيها من «تعريض أمن إسرائيل للخطر» وهي اسطوانة مشروخة يرددها اللوبي الصهيوني في كل مرة تقترب لحظة استحقاقات أي قرار أميركي يتعلق بالمنطقة وسيرة السلام. بالتزامن مع جولة أوباما ومواقفه تتحدد هذه الأيام ملامح خريطة المنطقة بعد التعديلات التي شهدتها خلال الأشهر القليلة الماضية، كما تتحدد خطوط الاتجاهات في كثير من الدول والأوضاع، بدءاً من نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية التي أجريت أمس ليس على صعيد الأحزاب والأطراف والفرقاء المحليين فحسب، بل على صعيد الأطراف الإقليميين والدوليين والعرب نظراً لما تحمله هذه النتائج من مؤشرات واستدلالات وانعكاسات كبرى بانتظار الخطوات اللاحقة من كيفية تأليف الحكومة الجديدة وهوية رئيسها ومصير الثلث المعطل وطبيعة ومفردات البيان الوزاري وصلاحيات رئيس الجمهورية وقدرة الرئيس ميشال سليمان على العبور بين حقول الألغام واجتياز الخطوط الحمر والانتقال من مرحلة الموقف والمنتظر الى مرحلة الحكم والمقرر والمرجعية التي يلجأ اليها الجميع ويكف البعض عن التعرض لها وشلّ حركتها بالترهيب تارة وبالترغيب تارة أخرى. وفي شأن آخر مرتبط بشكل ما يبدو المشهد الإيراني ماثلاً وملازماً لما يجري في لبنان والمنطقة ومرتبطاً بالتمهيد والتحضير لحوار أميركي – إيراني. فالملف النووي الإيراني موضوع على طاولة البحث ويطبخ على نار ملتهبة، ان لجهة ما يقال عن قرب إنتاج قنبلة نووية أو ما يحضر في إسرائيل لعملية عسكرية خاطفة تستهدف تدمير المنشآت النووية الإيرانية على رغم التحذيرات الأميركية المتكررة. فبانتظار ما يرشح عن الهجمة الأميركية لبدء الحوار والترقب العام لنتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، إن بعودة محمود أحمدي نجاد أو بفوز المرشح الإصلاحي، فإن كل الدلائل تشير الى ان إسرائيل تعدّ لشيء ما يقلب المائدة على الجميع بعد تقويم المعطيات والدروس والعبر المستخلصة من المناورة العسكرية الكبرى التي أجريت الأسبوع الماضي وتركزت بالتحديد على مواجهة مفاعيل الحرب ومواجهة المجتمع الإسرائيلي بمدنه وقراه ومؤسساته هجمات صاروخية بأسلحة تقليدية وكيماوية، وحتى نووية. كل هذه الأجواء التي صاحبت جولة أوباما، تضاف اليها تطورات الأحداث في العراق وأفغانستان، أعطت الحدث أهمية كبرى وحولته الى حدث مصيري يضع المنطقة بأسرها على مفترق طرق بين الحرب والسلام... وبين الفوضى والاستقرار. ولعل في اشارات أوباما في مواقفه وخطاباته دلائل على استيعابه مدى الأخطار المحدقة في المنطقة والتي تهدد المصالح الأميركية في شكل عام ولا سيما في قوله: ان من الغباء أن يفرض أحدنا على الآخر قيمه وثقافته وتاريخه، وفي تأكيد احترامه للدين الإسلامي والمسلمين وهم قوة كبرى في الولاياتالمتحدة، ثم في التصميم على الحوار والتفاهم والعلاقات الطيبة، مما يفتح الباب أمام مسح خطايا عهد بوش وترهاته. وبانتظار تحويل هذه الوعود الى تعهدات، والأقوال الى أعمال وجهود حثيثة من أجل فرض السلام العادل والشامل، فإنه يمكن الجزم بأن جولة أوباما حققت أهدافاً مهمة وأعادت الاعتبار الى سياسة الولاياتالمتحدة نظرياً ريثما تترجم النظريات الى حقائق ووقائع على أرض الواقع عند التطبيق. فقد سجل أوباما النقاط الآتية: * مخاطبة العرب والمسلمين من موقع الندية ودعوتهم الى حوار بناء يضع حداً لحالة العداء والكراهية بعد أن كاد سلفه بوش أن ينسف أسس العلاقة بتبني مبادئ صراع الحضارات وترهات المحافظين الجدد حول الخطر الإسلامي وتعميم تهمة الإرهاب على المسلمين وإعادة أحاديث الحروب الصليبية وذكرياتها المريرة ثم طرح سؤال سخيف هو: لماذا يكرهوننا؟ مع أنهم أكثر الناس معرفة بالجواب وأشدهم اطلاعاً على الأسباب. * تأكيد الالتزام بتحقيق السلام في المنطقة وإعادة الاعتبار والزخم الى دور الولاياتالمتحدة المحوري والرئيس في هذا المجال والتمسك بحل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية وقرارات الشرعية الدولية ومرجعية مدريد. * الإعلان عن الاعتراف بالمبادرة العربية للسلام واعتمادها ركيزة لإحياء جهود السلام... مع غيرها من المبادرات... والتلميح الى مبادرة قريبة يعلنها أوباما ويعرضها على جميع المعنيين بالسلام. * تأكيد الرغبة بفتح أبواب الحوار مع إيران وسورية، ومعالجة موضوع الملف النووي بمرونة أولاً ثم بحزم لاحقاً في حال عدم تجاوب إيران. * تأكيد الالتزام بقرار الانسحاب من العراق وضمان أمنه واستقراره، ومحاولة ايجاد حل لأزمة أفغانستان المستعصية ودعوة السعودية لبذل جهودها لإحياء الحوار مع أطراف النزاع الأفغاني. * تطمين دول الخليج والأطراف العربية الأخرى الى أن الحوار مع إيران لن يكون على حسابها ونفي إمكان عقد أي صفقة تهدد مصالحها وأمنها على رغم الإقرار بإمكان منح إيران ما تطالب به من أدوار في المنطقة كقوة إقليمية لا بد من أخذها في الحسبان مع تأكيد ثبات دور مصر العربي والإسلامي والدولي. * تجديد الشراكة الاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية في كل المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والعلمية والاعتراف بدور المملكة الرائد في المنطقة والعالم وإبداء الإعجاب بالسياسة الحكيمة التي ينهجها خادم الحرمين الشريفين داخلياً وخارجياً عبر منهج الإصلاح والعدالة والتنمية المتوازنة وسبيل الحوار بين الأديان والأعراق لتكريس السلام والمحبة وإزالة الأحقاد ومحاربة الفقر والجهل والتخلف والعنف والإرهاب، إضافة الى التقدير العالمي لدوره في إطلاق مبادرة السلام العربية. هذه النقاط التي سجلها أوباما في جولته تبشر بتحولات كبرى قد تترجم قريباً بالدعوة الى مؤتمر سلام على غرار مدريد (2) – أو كامب ديفيد (2) – من دون أن نتجاهل سعي روسيا لعقد مؤتمر سلام في موسكو خلال الأشهر القليلة المقبلة استكمالاً لما تم الاتفاق عليه في مؤتمر أنابوليس. وعلى رغم كل ذلك يتوجب علينا الحذر واليقظة وعدم النوم على حرير الوعود أو في عسل الأقوال والخطابات. فقد عودتنا التجارب عدم الثقة بالمكر الصهيوني وعدم الاستناد الى الوعود الأميركية البراقة كما اكتوينا بنار المماطلة والمناورات وهموم إضاعة الفرص ولعبة كسب الوقت. ومع الاحترام الشديد لنيات أوباما، فإن إسرائيل تولت مهمة زرع الألغام في طريقه وبدأت تعدّ العدة لمجابهة أي ضغط يمارسه عليها. وقد يبلغ المكر المكرر مداه بتظاهر أوباما بقبول ما يعرض عليه على طريقة نعم ولكن تحمل ألف معنى ومعنى وتضع ألف لغم ولغم وتفرض ألف شرط وشرط تنسف فيها كل الجهود وتفرغ أي مبادرة من محتوياتها ومعانيها ومبانيها. ومن بين هذه الألغام والشروط والعقبات نذكر على سبيل المثال لا الحصر: * المضي في بناء المستوطنات واستصدار فتوى دينية من الحاخامات بتحريم أي تفكيك أو ازالة أو وقف بناء. * البدء بممارسة ضغط مضاد على ادارة أوباما لشل قدراتها وإرباكها وإلهائها بقضايا محلية في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة. * إخراج قضية «يهودية» الدولة الى الواجهة وفرضها كشرط تعجيزي واستصدار قرار من الكنيست بتجريم كل من يشكك أو يعارض يهودية دولة إسرائيل والتمهيد لترحيل عرب فلسطين عام 1948 وفق خطة «الترانسفير» القديمة المتجددة. * رفض أي بحث في مستقبل القدس والإصرار على تهوديها وفرضها عاصمة أبدية لإسرائيل. * إثارة موضوع «الوطن البديل» الذي ظن البعض أنه دفن، لكنه ما زال يشكل محور الفكر الصهيوني الجهنمي، مما أثار حفيظة الأردن المهدد بهذا الطرح المشبوه. * تكرار شرط عدم التخلي عن الجولان ورفض استئناف المفاوضات مع سورية على أساس ما تم الاتفاق عليه في مفاوضات سابقة ولا سيما في مدريد وما يعرف بوديعة رابين وتعهد أولمرت ومبدأ الأرض مقابل السلام. * اثارة مواضيع جانبية ضمن ما يدعيه نتانياهو من أنه مقاربة جديدة ترتكز على ثلاثة أعمدة هي: إشراك الدول العربية في التطبيع الفوري والكامل وادعاء إطلاق مشاريع اقتصادية في مناطق السلطة الفلسطينية ودفع العملية السياسية مع الفلسطينيين من دون ذكر للدولة وأسس السلام والاتفاقات الموقعة وحقوق الشعب الفلسطيني. كل هذه الألغام الصهيونية تدفع الى التشاؤم والحذر وتتطلب تحركاً عربياً جاداً وفعالاً لتشجيع أوباما على تنفيذ وعوده والضغط على إسرائيل لحملها على الرضوخ لإرادة السلام والكف عن تعنتها ومناوراتها كما يتطلب تضامناً عربياً شاملاً وكاملاً لمواجهة أخطار هذه المرحلة الحساسة والدقيقة ودعم جهود المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية وحل الخلافات القائمة في لبنان والسودان وغيرهما ودعم استقرار العراق وإنهاء محنة الشعب الفلسطيني. وأي تهاون في هذا المجال ينسف آمال السلام ويعيد الأزمة الى نقطة الصفر ويحقق أهداف إسرائيل وأمنياتها في البحث عن مخرج ينجيها من الضغط الأميركي المنتظر مثله مثل أي ذريعة يقدمها أي عربي هدية ثمينة لإسرائيل أو أي عمل أخرق تستغله إسرائيل للتنصل من استحقاقات السلام كما حدث في الماضي مرات عدة. فالانتظار الآن هو سيد الأحكام، فقد نجح أوباما في إعادة الاعتبار الى دور الولاياتالمتحدة... لكنه لم يستعد حتى هذه اللحظة الثقة بها وبهيبتها... وهذا لن يتحقق إلا بتنفيذ التعهدات والضغط على إسرائيل بلا خوف ولا وجل ولا تراجع مهما كان الثمن! * كاتب ومفكر عربي