هل يكون هو نفسه موضوعاً لروايته الأولى التي تظهر قريباً، أم تنحاز إلى مساعيه في تبسيط العلوم ونشرها، فتكون من روايات الخيال العلمي، ثم تصبح (ربما) فيلماً سينمائيّاً؟ برز ذلك السؤال عند تصفح السيرة الذاتيّة لعالم فيزياء الذرّة البريطاني- العراقي جميل صادق الخليلي، الذي يمثّل حالاً نادرة بين العلماء العرب المتألقين في الغرب. وترجع فرادته إلى أنه يجمع بين كونه عالِماً متقدّماً ومكرّساً من جهة، ونهوضه بمهمة نشر العلوم وتبسيطها وإيصالها إلى الجمهور عالمياً من الجهة الثانية. وفي المركز الغربي المتقدّم علميّاً، يعتبر الخليلي (مواليد بغداد، 1962) مرجعيّة في فيزياء الذرّة ومكوّناتها وطاقاتها المتنوّعة، بل عقد صداقة علميّة وشخصيّة وإعلاميّة مع عالِم الفيزياء البريطاني الفذّ ستيفن هوكينغ الذي يعتلي قائمة العقول العلميّة المتألّقة عالميّاً. ونال الخليلي «ميدالية ستيفن هوكينغ الافتتاحيّة في توصيل العلوم» (Inaugural Stephen Hawking Medal for Science Communication 2016)، وهي جائزة تشي أيضاً بشدة اهتمام هوكينغ بمسألة تبسيط العلوم وإيصالها إلى الجمهور الواسع، باعتبار ذلك شرطاً أساسساً في تقدم العلوم والتكنولوجيا. وتوضيحاً، كان الخليلي ضمن ثلّة أحرزت تلك الجائزة في نسختها الأولى، لذا سُميّت ميداليته افتتاحيّة. وآنذاك، وصفت صحيفة «الغارديان» الخليلي بأنّه «فيزيائي ومقدّم برامج»، منوّهة بأشرطته العلميّة الوثائقيّة ك «أسرار الفيزياء الكموميّة» (Secrets of Quantum Physics)، بل نقلت عنه مشاركته هوكينغ القناعة بأن يكون العالِم الباحث موصِلاً ناجحاً للعلوم وشارحاً لها وعاملاً على نشرها عالميّاً. بعبارة وجيزة، يمثّل الخليلي ظاهرة مُرَكّبَة تتداخل فيها مكوّنات تشمل أصالة الانغماس في الابتكار والتطوّر والاكتشاف علميّاً، والحضور الكثيف للبُعد الاجتماعي في العلوم باعتباره جزءاً أصيلاً في البيئة الحاضنة للعلم والداعمة لتقدمه وتطوّره، إضافة إلى العلاقة المعقّدة بين مسار العلوم في بلد عالمثالثي (العراق) ومركز متقدّم (بريطانيا) في العلوم المعاصرة. واستباقاً، تحتاج إنجازات الخليلي في كلا ذراعي مساره (الاكتشاف العلمي وتبسيط العلوم ونشرها) إلى عشرات الصفحات، ليس لروايتها والحديث عنها، بل لمجرد سردها وإيراد عناوينها العريضة! ويكفي القول إنّ عناوين كتبه وبحوثه العلميّة الصرفة، تكفي لملء صفحات وصفحات. وهذا المقال ليس إلا محاولة لإلقاء أضواء خاطفة على جزء من الظاهرة العلميّة- الإعلاميّة التي يمثّلها الخليلي. يرد إلى الذهن سؤال حارق عن سبب عدم انغماس المشتغلين في العلوم في البلدان العربيّة بأنفسهم، في نشر العلوم وتبسيطها وتوصيلها إلى الجمهور العريض. ألا يدرك هؤلاء أنّ تقدّم التفكير في العلوم لدى عامة الناس هو شرط لا غنى عنه في تقدّم العلم الذي ينهضون بمهمة الاشتغال به؟ هل يتصوّرون أنّ من المستطاع التقدّم في العلوم والابتكار والاكتشاف، في ظل مجتمعات تئنّ من وطأة ابتعادها عن العلم، بل صمته المدوي الناجم عن غيابه المستمر عن ثنايا الحياة اليومية لعامة الناس؟ البداية: بغداد وآينشتاين تفتّح الخليلي بِكْراً لأسرة تتوسطها أمّه الإنكليزيّة التي تعرّف إليها أبوه حين درس الهندسة الكهربائيّة في بريطانيا في خمسينات القرن العشرين. ويعني ذلك أنّه نشأ في ظل تفاعل علمي بين بلده العالمثالثي وبين الغرب المتقدّم علميّاً، مع وجود سلاسة في التفاعل إنسانيّاً مع تلك الحال بفضل الأم البريطانية. «كُنّا نتحدث الإنكليزيّة داخل المنزل، والعربيّة خارجه»، أوضح الخليلي في سيرته المُرسَلَة إلى «الحياة»، مشيراً إلى أنّ أباه عمل ضابطاً في القوات الجويّة. وغادرت الأسرة العراق في 1979، نائية بنفسها عن نظام الديكتاتور السابق صدّام حسين. وكذلك جاءته من الأم محبّة الموسيقى والفن، فأضيفت بأريحيّة إلى اهتمامه منذ صغره بالعلوم. وفي ذاكرة الخليلي تلك الليالي التي قضاها على سطح منزل في الموصل، محدّقاً من سريره بالنجوم، ما عزّز اهتمامه وتفوّقه في الرياضيّات والفيزياء. ومنذ سنيّ الدراسة الثانويّة في العراق، عقد العزم على التعمّق في دراسة الفلك وآلبرت آينشتاين والفيزياء الكموميّة. استهل الخليلي دراسته الجامعية في كليّة الفيزياء في جامعة «سوري» في بريطانيا (ما زال يعمل فيها كبروفسور للفيزياء) بعيد استقرار الأسرة فيها. وانجذب إلى الفيزياء النظريّة المستندة بشدّة الى الرياضيّات المحضة، مركّزاً على الذرّة وأنويتها وإلكتروناتها والطاقات المتنوّعة المختزنة فيها. وعلى غرار والده، تزوّج من إنكليزيّة قبل 31 سنة، وأنجب منها طفلين. في 1989، نال الدكتوراه عن رسالة علميّة في التفاعل النووي، اعتمد فيها على الفيزياء الكموميّة في شرح التصادم بين نواتين ذريّتين تتحرّكان ضمن مُصادِم نووي يضمن تحرّكهما بسرعة خاطفة. وكذلك استفاض في دراسة ما ينجم عن ذلك التصادم من مُكوّنات ذريّة فائقة الصغر، إضافة إلى أنواع الطاقة التي تنجم عنه أيضاً. وانتقل في بحوثه لما بعد الدكتوراه عن الموضوع عينه إلى «كلية لندن الجامعية». ثم عاد إلى جامعة «سوري» أستاذاً أكاديميّاً، وسرعان ما صار مرجعية عالميّة في موضوع ذريّ فائق الدقّة يُعرف تقنيّاً باسم «نماذج الانتشار للجسم الضئيل». ولأخذ فكرة عن أهمية التخصّص الذي يتمرّس الخليلي فيه، تكفي الإشارة إلى أن جائزة «نوبل» في الفيزياء ذهبت في 2013 إلى عالِم الفيزياء بيتر هيغز بعد أن أثبتت تجارب «مُصادِم هادرون الكبير» (Great Haddron Collider) صحة نموذجه في الفيزياء النظريّة عن المكوّن الأشد ضآلة في تركيب الذرّة. ويشرف على المُصادِم «الاتحاد الأوروبي»، ويعتبر من أبرز مشاريع الفيزياء المعاصرة وأكثرها تقدّماً. يملك الخليلي موقعاً على شبكة الإنترنت هو jimal-khalili.com.