صدر أخيراً عن دار المعارف في مصر، كتاب «الآخر بين الرواية والشاشة» للصحافي محمد رفعت، ليعتبر أول كتاب في اللغة العربية يتعرض لصورة الغربي في الرواية والسينما العربية. ويضم الكتاب أحد عشر فصلاً. ويقول رفعت في مقدمة كتابه: «في الوقت الذي يغضب فيه العرب من صورتهم في أفلام عاصمة السينما الأميركية «هوليوود» ويتهمون اليهود بتعمد تشويه هذه الصورة من خلال سيطرتهم على الإنتاج والتوزيع السينمائي... تقدم السينما المصرية الرجل الغربي بصورة سلبية للغاية، تعمد فيها إلى كثير من التعميم». ف «الخواجة» على الشاشة، إما جاسوس أو عميل أو طابور خامس لإسرائيل وأذنابها أو متآمر على العرب. و «الخواجاية» بالتأكيد ساقطة أو جاسوسة هي الأخرى. ولم يخرج من تلك الدائرة سوى بعض الأفلام القليلة التي أنصفت المرأة الغربية، ومعظمها مأخوذ عن روايات أدبية لأدباء عظماء تعلموا في أوروبا وتزوجوا أجنبيات ومنهم طه حسين في رائعته «الأيام» أو توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق» أو يحيي حقي في «قنديل أم هاشم». وفي صفحات الكتاب تحليل لصورة الآخر كما تقدم على الشاشة المصرية. زوجة الكلّ! «يا جوليا يا مزبلة يازوجة الكل»... هذه العبارة التي قالها فنان الشعب الراحل يوسف وهبي لزوجته الراقصة الفرنسية حين اكتشف خيانتها له مع رجل آخر في أول فيلم مصري ناطق، وهو «أولاد الذوات»، إنتاج عام 1932، هي ذاتها القاعدة التي ما زالت تحكم نظرتنا إلى الغرب ورجاله ونسائه في أعمالنا الفنية سواء للمسرح أو السينما أو التلفزيون. ونظرة سريعة إلى صورة الآخر أو «الخواجة» في السينما المصرية سوف تؤكد هذا الاستنتاج... فالأجنبي في الأفلام لص خطير يرتدي القبعة ويمسك بالسيجار ويتكلم بلكنة عربية «مكسرة»، ويسعى إلى سرقة ثروات البلاد أو هدم موروثاتنا وثقافتنا وأخلاقياتنا من خلال تصدير وتهريب المخدرات، مستغلاً في ذلك سلاح المال أو الجنس. وتلك هي «التيمة» الثابتة تقريباً التي تلعب عليها معظم الأفلام. فالغربيون لصوص ومرتزقة وقوادون وتجار مخدرات وسلاح، والغربيات أو «الخواجات» من النساء غالبيتهن ساقطات وعاهرات أو على الأقل جاسوسات وعميلات للموساد أو المخابرات الأميركية. والغريب أن الصورة لم تكن هكذا في بدايات السينما المصرية حين كان يعيش في مصر كثير من الأجانب من جنسيات مختلفة وينصهرون داخل نسيج المجتمع دون إثارة أية مشكلة دينية أو عرقية، خصوصاً من الأرمن واليونانيين الذين كانوا يتحدثون بعربية محببة ويختلطون بالطبقات الشعبية من المصريين. وقد رأينا نماذج كثيرة شهيرة لهؤلاء في الأعمال الفنية المصرية، ومنهم الشخصية الكوميدية الرائعة الخواجة «بيجو» التي أبدعها الرائع الراحل يوسف عوف في برنامج «ساعة لقلبك» وانتقلت مع كثير من شخصيات البرنامج الإذاعي الشهير إلى السينما، ومازالت اسكتشاته الضاحكة مع «أبولمعة» تثير الإعجاب والضحكات حين نشاهدها ونسمعها حتى الآن، وتذكرنا بشخصية «أبو العربي» البورسعيدي «الفشار» خفيف الظل. وهناك أيضاً شخصيات الخواجة «بنايوتي» صاحب الخمارة أو «البارمان»، واليهودي البخيل الذي يتكلم عادة من أنفه، واشتهر بها الكوميديان العبقري الراحل «استيفان روستي» وأداها في أكثر من فيلم، من بينها «فاطمة وماريكا وراشيل» مع المطرب المجدد محمد فوزي، وفيلم «الزواج على الطريقة الحديثة» مع سعاد حسني وحسن يوسف، ولعبت فيها دور ابنته الفنانة ميمي جمال وهي أرمنية الأصل. وساعد اتجاه عدد من أبناء الجنسيات الأجنبية التي تعيش في مصر للاشتغال بالفن، خصوصاً في مجالات الغناء والرقص والسينما إلى تقبل الناس في ذلك الوقت لقبول الآخر من دون عقد أو حساسيات، وقامت النهضة الفنية والثقافية والصحافية في مصر على يد كثير من هؤلاء الأجانب سواء كانوا من أصول عربية أو غربية، ومنهم يعقوب صنوع « أبو نضارة « في المسرح والصحافة، ونجيب الريحاني في المسرح والسينما، واستيفان روستي وهو مجري من أم إيطالية، وعائلة «مراد» وعميدها الملحن الموسيقار زكي مراد، وابنته قيثارة الشرق ليلى مراد، والملحن العبقري منير مراد، وهي عائلة يهودية من أصول شامية. ومن نجمات السينما في ذلك الوقت ليلي فوزي وهي أرمنية، وكذلك مريم فخر الدين، وهي مصرية الأم ومن أب مجري والممثلة اليهودية كاميليا، والراقصة الممثلة نيللي مظلوم، وبنات عائلة «آرتين» الفنانة الاستعراضية نيللي، ولبلبة، والطفلة المعجزة فيروز. إسهامات ثرية كل هؤلاء أسهموا بالعمل في الأعمال الفنية المصرية وذابوا تماماً في التركيبة الاجتماعية، ولم يعد أحد يذكر أصولهم الأجنبية، أو يتحدث عنها، وربما كان هذا ما يفسر السطحية الشديدة التي تعاملت بها السينما مع الآخر في سنواتها الأولى، وإن لم يكن يشوبها أي درجة من درجات الكراهية أو التعصب، في الوقت ذاته الذي لم تكن تخلو فيه من بعض السخرية من صفات اشتهرت بها بعض الشخصيات العرقية، مثل شخصية اليهودي البخيل، أو البواب البربري كثير الكلام، لكن هذه النظرة تغيرت كثيراً بعد قيام ثورة تموز (يوليو) 1952. وأفلام ما بعد الثورة القليلة التي تعرضت لشخصيات غربية تعاملت معها باعتبارها أذناباً للاستعمار وأعوانه، وطابوراً خامساً يريد القضاء على مكتسبات الثورة، وحاولت تشويه تاريخ أسرة محمد علي الأجنبية التي حكمت مصر لسنوات طويلة، وخصت بالهجوم الملك فاروق آخر ملوك مصر، ووالدة الملك فؤاد، وحرصت على التجاهل التام لأي إنجازات أو إيجابيات لأسرة محمد علي المعروف بأنه باعث نهضة مصر الحديثة، وأحد خلفائه وهو الخديوي إسماعيل الذي أنشأ الأوبرا وواصل تحديث مصر وتمدينها، على رغم ما أثقل به كاهلنا من ديون.