كم يتحسر المرء على عاطفة العرب الجياشة، فهم بين طرفي نقيض، إما حب بلا حدود أو كراهية بلا قيود، تذكرت ذلك عند ما بدأت زفة قادة الحركات الإسلامية، الذين سارعوا إلى نوفل شاتو الضاحية الباريسية، ليقابلوا الراحل آية الله الخميني، ولتتجه وفودهم زرافات ووحداناً إلى طهران، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل تقدم د. يوسف القرضاوي بمؤتمرات التقريب بين المذاهب، وهكذا دخلنا في زفة التقريب، ليتم اختراق العالم الإسلامي بالتشيع، ورغم صرخات المخلصين بأن التشيع أصبح طابوراً خامساً، وأضحى لدينا شيعة في بلدان سنية صرفة، ومع هذا بقي قادة الحركات الإسلامية يتحالفون مع الثورة الإيرانية على مدى ثلاثة عقود، ومن ضمنها ما يسمى بمؤتمرات القدس. بعد 30 عاماً، استيقظ د. القرضاوي ليجد مصر عقر داره قد ظهر فيها لعن الشيخان وشتم أم المؤمنين، ليقول صرخته المدوية ضد التقريب، ومؤكداً أن السير في التقريب خيانة للأمانة، وأن القوم يقولون بتحريف القرآن ولعن الصحابة. قال فضيلته ذلك لكن بعد خراب البصرة، تنكر لكلامه بعض طلبته وعلى رأسهم د. سليم العوا، ثم بدأ تنصل قادة الحركات الإسلامية من العلاقة مع إيران، لكن حاجة حركات حماس للدعم الإيراني أبقت الصوت منخفضاً. ما ذكرته سابقاً هو مقدمة لهذا المقال عن زفة العرب إلى تركيا. فمع حبي الشديد للزعيم الإسلامي المرحوم نجم الدين أربكان وطلبته، وما قدموه من جهود لإعادة الهوية الإسلامية إلى تركيا الخلافة، لكن في ظل وجود كثير من المنظمات الشعبية الإسلامية، التي اتخذت من إسطنبول مقراً لها كالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورابطة علماء أهل السنة ورابطة علماء المسلمين، ومع التصريحات القوية لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أرودغان المؤيدة للعرب، وموقفه الرائع من كسر حصار غزة، وتأييده لتحركات الشعب المصري، لكن هناك جوانب خفية على كثير من العرب وجب تسليط الضوء عليها، وسألخص بعضاً من المواقف التركية على سبيل المثال وهي: أولاً: أصبح الثابت شبه الوحيد في السياسة التركية هي النفعية والمصالح والأرباح والخسائر. ثانياً: أصبح الموقف التركي لا يبنى على أساس الموقف الواجب اتخاذه شرعاً وأخلاقاً. ثالثاً: في موقف ناطق أخذت السياسة التركية موقفاً قريباً جداً من العقيد القذافي، فكان موقف تركيا ضد الضربات الجوية لحماية المدنيين. رابعاً: رأت الحكومة التركية وسمعت وشاهدت استخدام العقيد القذافي للطائرات والدبابات والراجمات، وقتله لشعبه وللمدنيين جهاراً نهاراً، ومع هذا أصمت تركيا أذنيها وأغلقت عينيها عن كل جرائم العقيد. أتعرفون لماذا؟ لأن السنوات الأخيرة كان بعض الشخصيات الإسلامية الليبية تدفع تركيا لأخذ جزء كبير من العقود في ليبيا، كسراً لاحتكار تلك العقود كلها لشركات الغرب، وهكذا رد أردوغان الجميل لهذه الشخصيات الإسلامية الليبية بأن صمت على إبادة العقيد لمدن بكاملها، ورد لهم الجميل بأن حذّر الغرب من التدخل. خامساً: عندما بلغت جحافل القذافي مشارف مدينة بنغازي، كانت هذه المدينة على وشك أن تُرتكب فيها إبادة جماعية لم يعرفها العالم. تحدث إلي بعض الثقات من طلبة العلم في بنغازي فقالوا: «أسرنا مرتزقة أفارقة دفع بهم القذافي وقال لهم اقتلوا الرجال ولكم النساء والأموال واستبيحوا بنغازي». هذه الاعترافات موثقة ومسجلة رفضت الفضائيات بثها. فأين الأخلاق يا فضيلة الشيخ رجب طيب أردوغان؟ أين أخلاق الإسلام عن إبادة مليون مسلم في بنغازي كادوا يفتك بهم؟ سادساً: في البحرين وقف السيد أردوغان موقفاً لا أخلاقياً فرغم ما يتعرض له سنة البحرين من قتل ودهس وتهديد بالاغتصاب، ورغم الترويع ورغم سلسلة التنازلات التي قدمها آل خليفة، فإن السيد أردوغان قد وقف موقفاً مناصراً للمعتدين! فنصح حكومة البحرين بالبدء في إصلاحات جذرية. لم يتبق أيها السيد أردوغان سوى أن يترك آل خليفة الحكم ويسلموه إلى شراذم طهران فهل هذا هو الإصلاح السياسي يا سيد أردوغان؟ سادساً: في لبنان تقف السياسة التركية موقفاً مناهضاً لسنة لبنان بل ترى أن حزب الله هو الأمل وهو المفتاح لأمن لبنان. سابعاً: هل مصلحة تركيا مع العالم الإسلامي الذي حكمته الخلافة من إسطنبول أم أن مصلحة تركيا هي مع الشركات والعقود التركية أو مع إيران الدولة التي تاريخياً أزالت المجد العثماني وتحالفت مع الغرب ضد تركيا في العلاقة المشهورة بين الصوفيين والبرتغال؟ ختاماً: إن ما يحدث من عواطف جياشة لدى العرب لصالح أردوغان هو موقف عاطفي أعمى وهو تكرار لزفة العرب إلى الخميني وإيران. وقد يستيقظ بعض العرب بعد 30 عاماً أخرى ليكتشفوا أنهم قد كرروا نفس زفة التقريب بين المذاهب. إنه من الطبيعي والمحتم أن تسعى الدول لمصالحها وتحرص على الأرباح وتتجنب الخسائر في قراراتها، فذلك عمل السياسة ومهامها، لكن السياسة ينبغي أن تضع الزاوية الأخلاقية كأساس تنطلق منه ثم بعد ذلك تأتي المصالح والأرباح والخسائر. أما السياسة التركية فتتجه يوماً بعد يوم لتصبح سياسة لا أخلاقية وإن تدثرت برداء العاطفة الإسلامية والتصريحات النارية، وليس أدل على ذلك من اتهام الزعيم الروحي للحركة الإسلامية المهندس نجم الدين أربكان بان حزب العدالة والتنمية ارتد عن مبادئه وأهدافه. التقلب الأردوغاني لقد بدأ الموقف التركي في ليبيا محذراً الغرب من التدخل واصفاً ذلك بالخطأ الكبير، ثم فور أن أدركت حكومة تركيا أن القذافي آفل ومنتهٍ بدلت لهجتها وطلبت منه الرحيل ثم ما لبث أردوغان أن حرك حزبه ليتخذ البرلمان التركي قراراً أشبه ما يكون بالانقلاب على الموقف السابق، فقرر مشاركة البحرية وسلاح الجو التركي في عمليات الناتو في ليبيا هذه العمليات التي كان قد وصفها أردوغان بالخطأ الكبير وحذر منها فسبحان مقلب الأحوال يا أردوغان وشكراً أيها الأعداء. ونظراً للأهمية العظمى لتركيا كدولة، فإنني أرى من الواجب علينا اتخاذ الخطوات التالية لنصبح مؤثرين في السياسة التركية بدلاً من أن تؤثر فينا السياسة التركية ونحن لا حراك لنا، والخطوات هي: - إنقاذ تركيا من التيارات والمناهج الصوفية المتوغلة والمتجذرة في تركيا، لدرجة أن كثيراً من الطرق الصوفية منبعها ومدرستها وفكرها نشأ وترعرع في تركيا. - إنشاء تيار سني إسلامي بعيد عن الوقوع في البدع والخرافات وفي نفس الوقت يكون ذا سمت راقٍ يناسب المجتمع التركي، لا أن تنقل فتاوى بلادنا إلى إسطنبول مع مراعاة الخلفية الحنفية الفقهية. - فتح الحوار التركي العربي لكشف الثغرات لدى الجانبين وتجاوزها، وأن يكون ذلك الحوار شعبياً وليس بالضرورة مع الجانب الحكومي التركي. - أجهزة الإعلام – مراكز البحوث الترجمة – المثقفون – الدعاة- الخريجون- الاقتصاد – رجال الأعمال - كل ذلك أدوات للتأثير في السياسة والمجتمع التركي. - إن من أهم أسباب زوال الدولة العثمانية هي الحركات الصوفية التي غزت وتغلغلت وأفسدت الدولة والجيش العثماني. - إن العالم التركي وهو ما يقارب من 400 مليون مسلم ناطق باللغة التركية يشمل الجمهوريات الإسلامية الواقعة تحت الاتحاد السوفيتي سابقاً وكذلك تركستان الواقعة تحت نير الاستعمار والقهر الصيني حتى الآن. - إن العرب يجب ألا يكونوا سلسين تؤثر فيهم تركيا ولا يؤثرون فيها. - وجوب وقف التفكير العاطفي تجاه أردوغان لان ما يحدث الآن هو عاطفة عمياء، وليس تفكيراً عقلانياً متزناً. - كان يزورني وفد من تركستان لأسألهم عن الدعم التركي لهم، باعتبارهم أتراكاً، لأفاجأ بأن عدد المنح الجامعية التركية لمسلمي تركستان البالغ عددهم 30 مليوناً لا تتجاوز 150 طالباً فقط، فيما المملكة تقدم آلاف المنح الجامعية الإسلامية. - وجوب الاستفادة من الجو الإسلامي المنفتح الذي أوجدته حكومة أردوغان لتأسيس جمعية تركية تسير وتنشر المنهج الشرعي السليم. - قد كان للمرحوم أربكان أحاديث وجه فيها نقداً لاذعاً لتلميذه أردوغان بلغ حد اتهامه بالتفريط في الثوابت والأستاذ خير من يقيّم تلميذه. * كاتب سعودي.