يتحفنا «القصر الصغير» (في حي الشانزيليزيه) بمعرض مزدحم بالحنين إلى أمجاد عاصمة النور في 1900، حين أقيمت أبرز تظاهرة عالمية تحت اسم «المعرض الشمولي»، حتى شكل هذا التاريخ تحولاً جوهرياً في سيرة باريس. تكاد تحمل من خلاله تاج «عاصمة العالم»، بخاصة في الحداثة والفن والمودة الثقافية وزهو الحياة في شتى مظاهرها العصرية بما فيها الصناعية والإلكترونية والطباعية وسواها. أقيم المعرض الموسوعي في حينها في الموقع نفسه ثم امتد خارجه ليستوعب استقبال ليس فقط زحف أهالي باريس إليه، وإنما أيضاً 51 مليوناً من السياح. معرض اليوم أستعادة لمعرض 1900 بشتى تفاصيله. توزعت المعروضات بسبب كثافتها ضمن عمارات مستقلة كما كانت قبل أكثر من قرن، ويستمر المعرض حتى 17 آب (اغسطس). معرض 1900 كان يشتمل على 600 عمل فني من لوحات ومنحوتات وسواها من الطباعات الفنية الحجرية أي ما يعرف بالليتوغراف اللون، ناهيك عن ديكورات وأزياء وأثاث ومجوهرات وطراز ذلك العصر المعروف باسم «آرنوفو»، وكان يتداخل الفن التشكيلي بالعمارة بالفنون الزخرفية، وبمناسبة المعرض العريق افتتح أول مسرح رسمي وأول صالة سينما، كما دشّن النحات رودان تمثالين يمثلان فكتور هوغو وإميل وزولا، وخصص لرودان قاعة كاملة، وكذلك لكلوديل وبورديل. تشهد تلك الفترة تنافس التيارات الفنية، ابتداءً من الصراع الحاد بين دعاة الأكاديمية (الكلاسيكية الواقعية) من مثال جيروم، الذي يشارك بلوحة مدهشة عن الحمام النسائي، يقف إلى جانبه فنانون مبدعون من جيله لعل أبرزهم وليام بوجيرو يليه ألكسندر كابانيل، وذلك مقابل منع عروض أمثال بول سيزان والتكعيبية (التي كان يدافع عنها الشاعر أبوللينير)، وحتى رواد الانطباعية من أمثال كلود مونيه (انطباع انعكاس الشمس) وأدوار مانيه (الغداء على العشب)، أما رودان فكان يمثل العبقرية البرزخية المتوسطة بين الطرفين، هو ما هيأ لمقدمات النحات المحدث مايول أن ينطلق، ولكنه كان يعرض لوحة قبل تخصصه بنحته المعروف وذلك لارتباطه بجماعة «الرؤيوية»، وعلى رأسهم بيار بونار. وكان بول غوغان مجايلاً لهؤلاء، اما زميلهم هنري تولوز لوتريك فكانت لوحاته شاهداً على مجريات الحياة الماجنة الليلية في حي مونمارتر، وأصبحت إعلاناته (بالطباعة الحجرية الملونة) شعاراً لكباريهات. من هذه النوادي الليلية التي تسربت إلى لوحات الفنانين ومطبوعاتهم في حي بيغال: «مولان روج» و«الديوان الياباني» و«الفولي بيرجير» والشانوار» (القطة السوداء). ناهيك عن بشائر وصول الباليه الروسي إلى تصاوير إدغار ديفا. يحاول بالإجمال معرض اليوم استعادة عروض المعرض الأول 1900 واستعادة مناخات علاقات الفنانين والأدباء والموسيقيين والمسرحيين (بخاصة سارة برنار) المتشابكة، سواء من طريق الوثائق الفوتوغرافية النادرة، أو من طريق بعض اللوحات البارزة. في لوحة المعلم إيميل بلانش مثلاً نشهد صورة أندريه جيد يدخّن لفافة تبغ ويعتمر قبعة سوداء، ويرتدي معطفاً أسود يتوسّط الأدباء وإلى جانبه شاعر تونسي بلباسه التقليدي يدعى عثمان بن صلاح. أما لوحة سيزان البارزة في المعرضين المذكورين فتمثّل تاجر اللوحات في تلك المرحلة وهو «أمبرواز فولار»، الذي شجع فنانين وعلى رأسهم بول سيزان. كما برزت أعمال الفنان النموذجي في أسلوب «الآرنوفو» وهو «ألفونس موشا» في عدد من تحفه. كما يشتمل المعرض على محفورة طباعية بليغة التعبير لأندريه دوفامبي توثّق مشهد السهرة الأولى في أول مسرح في حي مونمارتر. كانت باريس لا تنام الليل ولا النهار، تروّح عن نفسها دهشات الاختراعات الملهاتية الفنية الجديدة، من عروض إيمائية مكهربة، إلى السيرك والملاهي، في تلك «الحقبة الجميلة».