أكثر من جهة أكاديمية وثقافية في بريطانيا تضررت مما يحدث في ليبيا الآن، بداية من الفضيحة التي منيت بها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية «لندن سكول أوف إيكونومي»، جراء الكشف عن تلقيها تبرعات مالية من ابن القذافي سيف الإسلام طالب الدكتوراه، واستقالة عميدها بعد هذه الفضيحة، الى النتائج الأخرى المترتبة على اهتزاز عرش النظام الليبي، وهذه شملت وقف طباعة رسالة دكتوراه سيف الاسلام لدى دار نشر رصينة، إضافة الى تجميد حصة هيئة استثمار ليبية في دار نشر عملاقة. تكشف هذه المتتاليات عن نفاق غربي حكومي ومؤسساتي إزاء العلاقة مع الحكام المستبدين، من خلال رموز مجتمعات تتبنى الديمقراطية وتروج لها وتبرر كثيراً من سلوكها في العالم تحت شعار الترويج لحقوق الانسان والحريات، ثم تُضبَط متلبسةً بالفساد من خلال ارتباطها بأنظمة فاسدة. لن نخوض هنا في الجانب السياسي الذي تكشف عنه صفحات أخرى، ولكن سنركز على الجانب المرتبط بمؤسسات لها طابع تعليمي أو ثقافي، فالكشف عن تلقي كلية لندن للاقتصاد مبلغ مليون ونصف المليون جنيه إسترليني على شكل تبرعات من مؤسسة سيف الإسلام القذافي، كان وراءه طلاب الكلية الذين اعتصموا في الجامعة مطالبين إدارتها بإعادة المبلغ الى الشعب الليبي. المشكلة لم تنته عند حدود التبرع، بل تم ربطها برسالة الدكتوراه التي منحت للقذافي الابن، وبدأ تشكيك الطلاب ووسائل الاعلام وبعض الأكاديميين في كون سيف الاسلام هو المؤلف الحقيقي لهذا البحث، الذي من الواضح أنه لا يمت الى طريقة تفكيره بصلة، فعنوانه «دور المجتمع المدني في دمقرطة مؤسسات الحكم». أرغم هذا الفضح هوارد ديفيس عميد الكلية على الاستقالة، بعد أن تبين أنه، اضافة الى مسؤوليته عن شبهة تمرير رسالة الدكتوراه مقابل التبرعات، زار ليبيا مرات لإعطاء استشارات للحكومة هناك. هذه الفضيحة حملت بعضهم على التهكم، مسمِّين الكلية باسم كلية ليبيا للاقتصاد، بدلاً من كلية لندن للاقتصاد، باللعب على حرف اللام في كلا الاسمين. الفضيحة لم تنته عند هذا الحد، فظهر لها وجه آخر يكشف تورط دار النشر المرموقة التابعة لجامعة أكسفورد، اذ كانت وافقت على طباعة رسالة الدكتوراه ووقعت عقداً مع سيف الاسلام بهذا الشأن، وهو موقف منح القذافي الابن شرفاً كبيراً نظراً لقيمة الجامعة وتميزها في عالم النشر الأكاديمي. وبحسب ما ذكرت صحيفة «إيفننغ ستاندرد» اللندنية، فإن سيف الاسلام كان سعيداً بهذا القرار غير المتوقع، الى درجة أنه أبلغهم بنية شرائه عشرين ألف نسخة من الكتاب، الأمر الذي كان سيضعه بسرعة في قائمة أكثر الكتب مبيعاً. وبحسب الصحيفة، فإن دار نشر جامعة أكسفورد بررت قرار نشرها الرسالة بأنها فعلت ذلك بحسب المقاييس الأكاديمية التي وافقت اساساً على الرسالة. إلا أن الدار أوقفت تنفيذ عقد النشر تماماً الآن، رافضة إعطاء جواب واضح عما اذا كان القرار يخص كتاباً تمت طباعته وترك في المخازن، أم أنه لم يطبع بعد. وسارعت «مجموعة بيرسون» مالكة صحيفة «فايننشال تايمز» ودار «بنغوين»، الى تجميد حصة هيئة الاستثمار الليبية في أسهمها، وهي نسبة 3.27 في المئة. وتبلغ قيمة هذه الأسهم نحو 280 ألف جنيه إسترليني، ما يجعل الهيئة خامس أكبر مالك أسهم في هذه المجموعة الإعلامية. ويأتي هذا القرار متماشياً مع قرار رسمي بتجميد أصول أموال خمسة أفراد من عائلة القذافي في بريطانيا وأموال الحكومة الليبية. لكن الأخبار ليست كلها سيئة لآل القذافي في العاصمة البريطانية، فقد أكد ناشر دار «جون بليك»، أنه سيعيد نشر كتابين كان نشرهما في السابق، الأول هو مجموعة معمر القذافي القصصية المعنونة ب «أهرب الى الجحيم» صدرت عام 1998، وقدمها الناشر على الغلاف بقوله: «في هذه المجموعة، وبعيداً عن أفكاره كثوري ونبي، ستكتشفون هنا الكاتب». أما الكتاب الآخر وعنوانه «رؤيتي»، فنشر عام 2005، وهو عبارة عن مجموعة حوارات مع إدموند جوف الفرنسي المتخصص بالشؤون الإفريقية، يروي فيها القذافي سيرة حياته وآراءه في كثير من القضايا. يقول هذا الأكاديمي إنه «معجب بشخصية العقيد». وهذه الدار مشهورة بإصداراتها غير الرصينة، والكتابان لم يحوزا أيَّ عروض جادة في الصحف وهذا أمر يُحمد للمؤسسات الإعلامية البريطانية التي نأت بنفسها عن النفاق في هذا الموضوع، وتفوقت على مؤسسات أخرى ارتبطت بعلاقات مشبوهة مع نظام القذافي. غير أننا لن ننهي المقال قبل أن نعرج على «الكتاب الأخضر» الذي جعله القذافي دستوراً في بلاده ومقرِّراً في المدراس، فقد ترجم قبل سنوات الى الإنكليزية بأجزائه الثلاثة، وهي: حل مشكلة الديموقراطية، حل المشكلة الاقتصادية، والأساس الاجتماعي للنظرية العالمية الثالثة. في الكتابات الصحافية، او تلك المنشورة في المواقع على الإنترنت، يشار عادة الى الكتاب بأنه «يقرأ للترفيه». أو بأنه «يوزع باليد من شخص معروف بعلاقته بالنظام الليبي».