ظلت الثروة النفطية في دولة متوترة كالعراق، مصدراً أساسياً لإنتاج الخلافات والمنازعات والحروب، إن بين مكوّناتها الداخلية أو مع فضائها الإقليمي والدولي. لكن الأرجح أن الأكراد العراقيين الذين أعاقتهم العوامل السياسية، طوال الحقب الماضية، عن التمتع بحقهم في السيطرة على ثرواتهم النفطية، عازمون على إستفادة مختلفة من النفط، بعدما نجحوا في إنتاجه وتسويقه بالإستناد الى الدستور العراقي. وجه الإختلاف، هنا، يتمثل في محاولات كردية حثيثة لتسخير الثروة النفطية لا لتنمية قدراتهم الإقتصادية والمعيشية فحسب، بل لمدّ جسور جديدة للتفاهم والتناغم مع فضائهم الإقليمي والدولي، والدخول في برامج تنموية مشتركة مع دولة مثل تركيا طالما عاشوا معها في إطار دائرة مغلقة من المعضلات العويصة والدموية. يشار الى أن وزارة الموارد الطبيعية في حكومة إقليم كردستان العراق (بمثابة وزارة نفط) أبرمت منذ 2004 عقوداً مع مجموعة شركات نروجية وبريطانية وكندية وتركية وإماراتية لإنتاج النفط في حقلي تاوكي في زاخو وطقطق في كويسنجق. الكميات الأولى من نفط الحقلين تمّ ضخّها الى الموانىء التركية إعتباراً من الأول من حزيران (يونيو) الجاري وسط أجواء إحتفالية نادراً ما شهدت الأراضي الكردية مثيلاً لها. هذا، فيما تجري الإستعدادات على قدم وساق لإقامة مدينة متكاملة لإنتاج الغاز الطبيعي بكميات كبيرة مع حلول 2011. والقيمة الإجمالية لمشروع الغاز في حقول خورماله جنوب شرقي أربيل، تبلغ ثمانية بلايين دولار، فيما ينشط في أعمالها كونسورتيوم من الشركات الأوروبية بينها شركات تركية ونمساوية وهنغارية، وأخرى إمارتية. يهدف المشروع الى تسويق الغاز الكردي عن طريق الأراضي التركية الى أوروبا عبر أنبوب نابوكو الذي ينقل الغاز المنتج من حقول آذربيجانية في منطقة بحر قزوين الى أوروبا. في كل الأحوال، تميزت العلاقات بين الأكراد وتركيا، في عصريها القديم والحديث، بكمّ كبير من المشكلات بينها أجواء اللاثقة التاريخية التي تحكمت بالعلاقات بين الطرفين وأزمة إنتشار مجموعات من مقاتلي حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا في جبال كردستانية عراقية، إضافة الى خلافات سياسية بين الطرفين تعلقت بالفيدرالية الكردية في العراق والموقف من الأقلية التركمانية ومعضلة كركوك التي يتنازع عليها الأكراد مع الحكومة العراقية. وفي الواقع بذل الطرفان جهوداً كبيرة للتغلب على هذه المشكلات عبر الوسائل السياسية والديبلوماسية. كما أن واشنطن لعبت دوراً مشهوداً في هذا الخصوص. لكن لم تفض تلك الجهود والأدوار الى نتيجة ملموسة على الأرض رغم الهدوء الذي ميّز العلاقات التركية الكردية طوال العام الماضي. والأرجح أن النفط الذي حضر الى الساحة بسرعة لافتة، أصبح يهيء لا لحل هذه المشكلات، بل لبناء مستقبل زاهر من التعاون بين أنقرة وأربيل بطريقة طالما عجزت عنها السياسة. وما يزيد من قدرة النفط في هذا الصدد أن وزارة الموارد الطبيعية في حكومة الإقليم الكردي تخطط لرفع القدرة الإنتاجية الحالية للحقلين (100 ألف برميل) الى 450 ألف برميل خلال العام المقبل، والى مليون برميل في 2012. أما بالنسة الى الغاز الطبيعي فالإستعدادات جارية لرفع كميات إنتاجه وتسويقه من بليون ونصف البليون الى ثلاثة بلايين قدم مكعب يومياً في 2014، ما يضمن تحوّل المنطقة الكردية العراقية الى أحد أكر منتجي الغاز الطبيعي في المنطقة. معروف أن أنقرة التي عانت على الدوام من عقدة كردية شائكة في داخلها، تخوفت من أن يؤدي السماح بسيطرة أكراد العراق على مدينة كركوك الغنية بالثروة النفطية الى توفير مقومات إقتصادية تساعد الأكراد في إعلان دولتهم المستقلة. كما تخوفت من أن يؤدي تطور كهذا، أو حتى إمتلاك الأكراد في العراق لناصية ثروة نفطية ونقدية كبيرة، الى تشجيع النزعات الإنفصالية لدى أكرادها الذين يشكل حزب العمال الكردستاني قوة أساسية في صفوفهم. لكل هذا، دأبت تركيا، طوال الأعوام الثلاثة الماضية، على رفض المادة 140 من الدستور العراقي التي تقضي بإجراء إستفتاء في كركوك لمعرفة خيارات سكانها في شأن ضمّ مدينتهم الى الخريطة الإدارية لكردستان العراق. وفي الحقيقة، كانت المعارضة التركية للمادة 140 أحد أهم العوامل في تباطؤ الحكومة العراقية طوال الأعوام الثلاثة الماضية في معالجة معضلة كركوك عن طريق الدستور. صحيح، تنشط في كردستان العراق نحو أربعمائة شركة تركية تعمل في قطاع الإنشاءات وبناء الجسور والطرقات والكهرباء والمواد الغذائية. وصحيح أيضاً أن نسبة التعاملات التجارية التركية مع الأسواق الكردية العراقية فاقت خلال العام الماضي سقف الثلاثة بلايين دولار. لكن الأصح أن الأكراد يتطلعون الى التحول الى شريك تجاري أساسي لتركيا عبر، أولاً، رفع نسبة التعاملات التجارية والإقتصادية بين الطرفين، خارج قطاع النفط والغاز، الى خمسة بلايين دولار في العام المقبل. وثانياً، حثّ مزيد من الشركات التركية على الإستثمار في قطاعي النفط والغاز في كردستان العراق. فتركيا، في رأي الأكراد، دولة إقليمية يمكن أن تقوم مقلم الولاياتالمتحدة في الدفاع عن خصوصياتهم عند رحيل القوات الأميركية عن العراق. كما أنها مؤهلة للتحوّل الى عامل إيجابي لتعزيز تواصلهم مع أوروبا عبر المصالح الإقتصادية والتجارية. وخلاصة القول، إن أكراداً لا يزيد عمر نزولهم من قمم الجبال على عقدين، أصبحوا ينشطون في إزالة كل أسباب الفرقة والتنابذ مع تركيا عن طريق التعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي. وفي قناعتهم أن هذه الحالة تشكل كسباً لهم وللعراق وتركيا من جهة، ولقضايا الأمن والإستقرار والديموقراطية في البقعة الشرقية من منطقة الشرق الأوسط من جهة ثانية.