يحوي موقع «هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة» فيديو عن الأعمال الإنشائية في العاصمة الإدارية، وكلمة وزير الإسكان خلال افتتاح عدد من مشروعاتها في حضور الرئيس عبدالفتاح السيسي، وصوراً لحركة البناء والتشييد والتشطيب الدائرة رحاها. وتغطي صفحات الصحف الأولى وفقرات ال «توك شو» الرئيسة ونشرات الأخبار إنفوغراف وفيديو غراف وكل أنواع الغراف، بالإضافة إلى أخبار العاصمة الجديدة ومبانيها الحكومية والإدارية والسكنية وفرصها الاستثمارية. وتحفُل صفحات المؤيدين والمتفائلين على الشبكة العنكبوتية بسرد شخصي لما رأوه من إنجازات إعجازية على أرض العاصمة الجديدة، أو نقلاً عن فلان وعلان عما يحمله «الحلم» الجديد من قدرة على إذابة كوابيس عصور اقتصادية مضت وأخرى جاثمة على الصدور وسالبة لما في الجيوب. كما تحفل صفحات المعارضين والمتشائمين بهبد ورزع ومزاعم عن الإنفاق غير المتروي والأولويات غير المسؤولة والتوسعات غير المدروسة في عاصمة جديدة كان في الإمكان أن تنتظر إلى حين زوال آثار العلاج الاقتصادي شديد المرارة الذي يتجرعه المصريون. والمصريون في أحاديثهم اليومية يشيرون إلى العاصمة الجديدة تارة بالتساؤل وأخرى بالتفاؤل ودائماً بالالتباس المتأرجح بين تمنّي نيلهم جانباً من الخيرات الموعودة والتشكك في أن يكون الموضوع برمته أمراً سيادياً لا يطولهم أو ملفاً استثمارياً لا يصلهم أو بناءً استثنائياً لا يحتويهم. يحتوي الإعلام المصري على عناوين براقة تشير إلى «جامعات عالمية تستهويها العاصمة الجديدة» و «مؤشرات أولية لأسعار الوحدات السكنية» و «تفاصيل بناء أطول برج في أفريقيا في العاصمة الإدارية» و «طرح 10 آلاف فدان للمستثمرين» و «العاصمة الجديدة الفانوس السحري لحل أزمة المرور» و «7 معلومات عن النهر الأخضر في العاصمة الجديدة» و «مشروعات طبية عالمية في مدينة واحدة» و «المساحة الترفيهية 3 أضعاف يونيفرسال ستوديوز» و «أكبر مسجد وكنيسة في العاصمة الجديدة»، وغيرها من البشائر التي ترسم ملامح معجزة معيشية وليس عاصمة إدارية. العاصمة الإدارية، التي يتضح هذه الأيام من افتتاحاتها المتتالية وزياراتها المتواترة، أنها ليست إدراية فقط، بل سكنية ومصرفية وترفيهية وطبية واستثمارية وتعليمية، تشغل الشارع وتؤجج النقاشات وتثير الشقاقات وتحرك الأمنيات وتشعل النعرات. نعرة كراهية النظام وكل ما يصدر عنه بغض النظر عن حسنه أو سوئه لا تقابلها سوى نعرة حب النظام وتمجيد كل ما يصدر عنه. وتتجلى النعرتان عبر السور (السياج) الظاهر لكل مستخدمي طريق القاهرة–السويس والذي يحوي عدداً من مباني الوزارات. أتباع النعرة الأولى يلتقطون صوره ويرفعونها على الشبكة العنبكوتية باعتباره «دولة الجيش الشقيقة» و «سور السيسي المنيع الحاجب للشعب» و «الجدار العنصري الفاصل بين كبار رجال الدولة ورعاعها». ومعتنقو الثانية يلتقطون الصورة نفسها للسياج نفسه باعتباره سياجاً عادياً يحيط بأي بناء في العالم. وتتأجج المناطحات وتشتعل السجالات العنكبوتية بين فريق يشيع أن الغرض من العاصمة الجديدة فصل أسياد الشعب عن عبيده، وآخر يؤكد أن العاصمة بالسور المحيط بالوزارات تعمق آلام الكارهين وتجذر غيرة المعارضين. وبين هؤلاء وأولئك سائق أجرة يسأل عن المنفعة التي ستعود عليه من العاصمة الجديدة، ولا يسعد كثيراً بالإجابة التي تخبره بأن المنفعة ستعود على أبنائه وأحفاده. وتأتي كلماته واقعية موجعة: «أنا أيضاً أريد أن أعيش وأتمكن من الإنفاق على أولادي، وإلا لن يكون هناك أولاد أو أحفاد قادرين على جني المنفعة». منافع العاصمة الجديدة ما زالت تقتصر على تحليل الخبراء وتوقعات الاختصاصيين، وهي التحليلات والتوقعات التي تأتي بألوان أيديولوجية ونكهات سياسية. المعلقون والمتكهنون القابعون يمين المشهد يؤكدون أن التاريخ سيكتب اسم الرئيس بحروف من ذهب على العاصمة الجديدة التي ستنقل مصر والمصريين نقلة نوعية وكمية ومعيشية كاملة. والمعلقون والمتكهنون الرابضون يسار المشهد كانوا قبل أشهر يقسمون بأغلظ الأيمانات أن العاصمة الجديدة «فنكوش (أي وهم) أصيل». وبعد افتتاح مراحلها الأولى، يقسمون بالأيمانات ذاتها بأن العاصمة الجديدة فصل عنصري وعزل طبقي وهراء استثماري. لكن الاستثمار لا يتوقف كثيراً عند القيل والقال. فبدءاً بمطورين عقاريين عالميين يشيّدون منتجعات وعمارات سكينة يرسلونها في رسائل نصية قصيرة مفادها «إلحق واحجز وحدتك في العاصمة الجديدة» أو يعلقونها في لافتات إعلانية ضخمة على الطرق السريعة حيث «الحياة كما تنبغي أن تكون في العاصمة الجديدة»، مروراً بالنصابين والمحتالين حيث «لدينا أراض متاخمة للعاصمة الجديدة... احجز ب50 ألف جنيه»، وهي الأراضي التي تبعد كيلومترات كثيرة عن موقع العاصمة، وانتهاءً بجيوش جرارة من عفاريت الأسفلت بأنواعها، من ميكروباص طائر وثمن نقل حائر وتروسيكل (مركبة بثلاث عجلات) واهن بدأت تعمل على خط القاهرة – العاصمة الجديدة بنظام «السرفيس». وبين سرفيس العاصمة الجديدة والعاصمة القديمة شعور عام بأن «مصر بتعزّل» (تنتقل من بيت إلى بيت) وعلى رغم أن الرئيس السيسي قال قبل أيام إننا (المصريين) «مش بننقل ولا بنعزّل»، بل ننتقل بفهم جديد وقدرة جديدة وعمل ونظام جديدين إلى العاصمة الجديدة. وتظل العاصمة الجديدة نقطة جدال وبؤرة سجال ومحل حلم وموقع انتظار، للتأكد مما ستسفر عنه عملية «العِزال» (الانتقال).