كشفت تنقيبات أثرية نفذتها أخيراً فرق سعودية ودولية مشتركة، بإشراف الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، عن أن المملكة تزخر بعدد كبير من الموانئ التاريخية والأثرية على سواحل البحر الأحمر والخليج العربي، يعود بعضها إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، إذ كانت موانئ رئيسة للحضارات التي استوطنت الجزيرة العربية وشكلت أهم الحضارات الإنسانية وأكثرها تطوراً على مدى التاريخ، كما كشفت التنقيبات عن آثار ذات قيمة عالية تحت الأرض في عدد من هذه الموانئ، أظهرت أنواعاً من الأنشطة الاقتصادية في حضارات ما قبل الميلاد، من خلال هذه الموانئ، وما كانت تستقبله من سفن للبضائع خلال فترات متعاقبة، إذ كان لهذه الموانئ دور رئيس في استقبال البضائع الهندية والصينية، إذ تم العثور على أنواع من الخزف الصيني تعود إلى قرون ما قبل الميلاد. ومن هذه الموانئ التاريخية والأثرية «ميناء العقير» بالأحساء على ساحل الخليج العربي، إذ يعد من المواقع التاريخية المهمة في المملكة، وأول ميناء بحري فيها، كما كان الميناء الرئيس للحضارات المتعاقبة في الأحساء حتى عهد قريب، واهتم المؤسس الملك عبدالعزيز بميناء العقير لكونه البوابة الاقتصادية للدولة السعودية الناشئة، وكان إلى عهد قريب قبيل تأسيس ميناء الدمام، الميناء الرئيس الذي يفد إليه الزائرون لوسط الجزيرة العربية وشرقها. ومن أكبر الموانئ النبطية التجارية في منطقة تبوك وعلى السواحل الشمالية للبحر الأحمر يقع ميناء «عينونة» الأثري، الذي يعد من أكبر الموانئ النبطية التجارية (ميناء لوكى كومي) على ساحل البحر الأحمر، ويعود تاريخه إلى القرن الرابع قبل الميلاد، ويمتد إلى القرن الثاني الميلادي، إذ كشف فريق علمي سعودي - بولندي مشترك عن آثار مستوطنة أثرية تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، كما كشفت البعثة عن عدد من الأدوات الفخارية المتنوعة، والمطاحن والمدقات التي استخدمت في طحن الحبوب، أو ربما المعادن، وعدد من الأصداف البحرية المتنوعة، فضلاً عن العثور على بقايا مجموعة من الأفران داخل الغرف، وبقايا صهر خامات معدنية مختلفة، كما نقّبت البعثة المشتركة (السعودية - البولندية) المختصة عن الوحدات المعمارية المتبقية في المنطقة التجارية بعينونة، التي تعد من أضخم المباني المعمارية الموجودة في المنطقة الأثرية. ومن الموانئ التاريخية والأثرية كذلك ميناء «الجار»، الذي يقع على ساحل البحر الأحمر، على بعد نحو 10 كيلومترات شمال بلدة الرايس، بالقرب من ينبع، شمال غرب المملكة، ويعود تاريخ «الميناء» إلى فترة تسبق العصر الإسلامي، وكان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أول من اتخذ «الجار» ميناء رسمياً للمدينة، وكان الميناء يستقبل المواد الغذائية المرسلة من مصر إلى المدينةالمنورة، لذلك عد «الجار» أهم موانئ البحر الأحمر، خلال القرون الخمسة الأولى من الهجرة. فيما يعد ميناء «ينبع» من الموانئ التاريخية المهمة على البحر الأحمر، إذ عرفت ينبع ميناءً مهماً منذ عهد الإغريق، بحيث كانت تمون السفن الشراعية المارة بالبحر الأحمر، واشتهرت بموقعها على طريق القوافل المتجهة إلى الشام، كما ارتبط اسمها بحوادث وقعت في صدر الإسلام، بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش، إذ دارت فيها غزوات، عدة منها سرية العيص، وبواط، والعشيرة، وهذه كلها أسماء أماكن قديمة في ينبع؛ فالبواط والعشيرة أماكن معروفة اليوم بينبع النخل، كما زادت أهمية الميناء في عهد الدولة الأيوبية سنة 621، حينما جعلت ميناء للمدينة المنورة، بعد خراب ميناء الجار، وفي أيام المماليك أصبحت ينبع محطة لزوار المدينةالمنورة، ومن أسواق البحر الأحمر التجارية، واستمر ذلك حتى الدولة العثمانية حين جرى توسيع الميناء وبناء مخازن الحبوب، التي تعرف ب«الشونة» لاستقبال مخصصات المدينة من الحبوب، إلى أن كانت ينبع في بداية القرن ال13 الهجري ميناء تجارياً نشطاً يعج بعشرات الوكالات التجارية، لاستقبال وتصدير البضائع، إضافة إلى عشرات السفن ومئات القوافل التي تنقل البضائع بين ينبع ومدن المملكة المختلفة، كما تعمل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني حالياً، بالتعاون مع الشركاء الاستراتيجيين، على إعادة وترميم وتأهيل الميناء التاريخي ضمن المدينة التاريخية بمحافظة ينبع لتكون معلماً سياحياً. ويعتبر ميناء «ثاج» من الموانئ الأثرية المهمة في المملكة، وهو ميناء يقع في منطقة الدوسرية بمحافظة الجبيل بالمنطقة الشرقية، وقد وُقع اتفاق تعاون علمي مشترك عام 2010 بين قطاع الآثار والمتاحف بالهيئة العامة، ومعهد آثار ما قبل التاريخ في جامعة تيوغن، لأعمال التنقيب في الموقع من البعثة السعودية - الألمانية، إذ أسفرت نتائج التنقيبات الأثرية عن سبع طبقات تمثل عدداً من المراحل الاستيطانية، ترجع أقدمها إلى نهاية الألف السادس قبل الميلاد، والتي تنتمي إلى حضارة العبيد، وأحدثها إلى منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، وتمثل جميعها المراحل التي مرت بالموقع، من الترحال والصيد إلى الاستقرار، كما تشير الأعمال الأثرية الحديثة في الموقع إلى وجود نشاط استيطاني كثيف استمر فترات طويلة، ما يعكس الدور الذي لعبته المنطقة في عصور ما قبل التاريخ منذ العصر الحجري الحديث في الجزيرة العربية، المتمثل بمدى تأقلم وتكيف الإنسان القديم مع البيئة المحلية في سبيل بقائه، وتطويره وسائله ومظاهره المعيشية، وهو يعود في شكل كبير إلى العوامل الاقتصادية لتلك المجتمعات، وعلاقاتها الاجتماعية، التي تمتد من جنوب وادي الرافدين حتى وسط الخليج العربي. ومن أبرز نتائج أعمال «البعثة» العثور على مستوطنة تعود إلى حضارة العبيد (5000 ق.م)، والعثور على كسر فخارية ملونة تعود إلى حضارة العبيد (مستورد ومحلي)، والعثور على أدوات حجرية ثنائية الوجه، وتحديد النشاط الاقتصادي في موقع الدوسرية المعتمد على البحر، إذ دلّ ذلك على نوعية الأشياء المكتشفة. وفي محافظة الجبيل يوجد أيضاً موقع «الدفي» الأثري، الذي يبعد عن مدينة الجبيل البلد حوالى 14 كيلومتراً، ويحيط الموقع سور مساحته 60 ألف متر مربع، مقابل ساحل البحر، وترتفع التلال الأثرية إلى ستة أمتار عن سطح البحر.