تقود سيارتك، تجوب شوارع المدينة، تحدق عميقاً في تلك الاستكانة الغائرة في وجوه العابرين. يرمي بك المسير إلى الشاطئ، تقف بخشوع أمام زرقة البحر وجلال أمواجه الصاخبة، تشعر وكأن كيانك المكبّل بعتمته يتحرر ويمعن بالامتزاج في فضاء مشرق ورحب لا حدود له. معظم سكان المدينة أثناء العطلة الأسبوعية يخرجون من بيوتهم إلى البحر يحتشدون بأعداد هائلة على امتداد الشاطئ، تراهم كتلاً بشرية متآلفة تتميز طبائعهم بالمرونة والانفتاح. لكنهم عدما يغادرون البحر إلى مدينتهم يغلقون نوافذ بيوتهم خوفاً من تجدّد الهواء وتسرّب أشعة الشمس، يتفرقون يضربون طوقاً من العزلة في ما بينهم. تعود إلى مدينتك الكئيبة... إلى كوخك القديم، تدخل لغرفتك الضيقة ذات السقف المنخفض والجدران الرطبة، المدينة تبدو كلها غارقة في الرطوبة والعتمة، تحبو في أزقتها المظلمة مخلوقات هرمة وهشة تقترب من حافة الانهيار، تشعر وكأن الزمن يمر فوق هذا الركام مسرعاً نحو تخوم مضيئة. تنهض من جحيم أرقك، بودك لو تنام نوماً عميقاً... يدق جرس الهاتف وتجيب بصوت مرهق، تلقي عليك فاتن ابنة خالتك سؤالاً طالما تكرر على لسانها. - متى سنتزوج؟ كلهم يصرّون أن تتزوج، أمك تلح على زواجك من ابنة أختها لكي ترى أحفادها، وأبوك يقول لها: اقطعي حبل الأمل ابنك بلغ الثلاثين ولا يزال يرفض فكرة الزواج، وأختك الكبرى لا تكف عن قولها دوماً لأبيها وأمها بأن التسكّع ل «أنصاص الليالي» على شاطئ البحر وقراءة الكتب الممنوعة، هي التي خربت مخك ودفعتك لاعتناق أفكار شاذة عن قيم مجتمعك المحافظ! ترى... لو لم يكن في هذه المدينة المغلقة بحر وكتب ممنوعة تبث وميض الأمل في ذاتك الحالمة، هل ستطيق العيش داخل أسوارها؟ قلت ذلك وأنت قلق وحيد في غرفتك غارق في سيل تساؤلاتك: كيف ستقرر الزواج وأنت عاجز عن تقرير مصيرك؟ هل من السهل بناء أسرة سليمة في محيط مجتمع متخلف؟ تحاول أن تنام، يخترق مؤذن الحي بصوته، الذي يصل لأطراف المدينة، جدران غرفتك «الصلاة خير من النوم»، سكان الحي كلهم نائمون في هذا الوقت إلا أنت، تغلق نافذة غرفتك وتحلم بنوم عميق، حتى مطلع الشمس!