تصحيحاً لما وقع فيه البعض من ادِّعاءات غير علمية على الإطلاق، في شأن التقليل من أهمية عصر سلاطين المماليك ثقافياً وفكرياً، تدافع مؤلفات العلامة الإمام محمد بن بهادر بن عبد الله المصري الزركشي الشافعي المولود في مصر – كما تُجْمِع المصادر في ترجمته – عام (745 ه) والمتوفى عام (794 ه)، وهي مؤلفات موسوعية، تتسم بالدقة والعمق والأصالة، والاطلاع الواسع على تراثنا الفقهي والفكري واللغوي والأصولي، عن ذلك العصر. والطريف أن الزركشي لم يشتهر، مع علو قدره، إلا بعد موته، وذلك بسبب انقطاعه في منزله، فقد كان لا يتردد إلى أحد، إلا إلى سوق الكتب من أجل المطالعة والاستفادة ثم التصنيف، ومع هذا لم يجهل قدر علمه أحد من العلماء الذين عاصروه أو أتوا بعده، كابن حجر العسقلاني وجلال الدين السيوطي وعبد الغني النابلسي كما تذكر الدكتورة صفية أحمد خليفة. وتبرز مخطوطة «سلاسل الذهب في أصول الفقه» للزركشي؛ لتدلل على تبحره في هذا الجانب، فهي واحدة من أهم الكتب في علم أصول الفقه، ذلك العلم الذي أسس فيه كثير من العلماء قبله وَضْعَ منهج علمي دقيق لتبيين هذا العلم ودرجاته، وذلك منذ ألّف الإمام الشافعي كتابيه «الأم» و «الرسالة» وجاء الزركشي يسهم في تأصيل هذا العلم، كما تقول الدكتورة خليفة في تحقيقها للمخطوطة الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام (2008م) في 462 صفحة من القطع المتوسط، ضمن سلسلة (التراث). ويذكر الإمام الزركشي أنه تحدث في مخطوطته عن مسائل من أصول الفقه، عزيزة المنال، بديعة المثال، منها ما تفرع على قواعد منه مبنية، ومنها ما نظر إلى مسألة كلامية، ومنها ما التفت إلى مباحث نحوية نقّحها الفكر وحرَّرها، وألمع في آفاق الأوراق شمسها وقمرها، ليرى الواقف عليها صحة مزاجها، وحسن ازدواج هذه العلوم، وامتزاجها، وأن بناء هذا التصنيف على هذا الأصل مبتدع والاتيان به على هذا النحو مخترع. وتشير الباحثة المحققة إلى أن كتاب الزركشي هذا «ذُكِر في كتب سابقة منها حُسن المحاضرة، وطبقات المفسرين، وهدية العارفين، وكشف الظنون» وغيرها. ولقد ابتدأ الزركشي مخطوطته النفيسة هذه «بذكر فصل وضح فيه أن أصول الفقه تستمر من ثلاثة علوم هي: علم الكلام، والعربية، ومعرفة ما بها من حقيقة ومجاز، وعموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، وغير ذلك، والفقه، لأنه مدلول لأصول الفقه، وأصول الفقه أدلته، ولا يمكن معرفة الدليل مجرداً من المدلول». وتتناول مخطوطة الزركشي مسائل عدة ومتنوعة، فمن هذه المسائل: هل الحكم الشرعي خطاب الله تعالى أو كلامه القديم، وتعلق أحكام الله بأفعال العباد، وتسمية كلام الله في الأزل خطاباً، والحَسَن والقبيح، وحكم الأشياء قبل ورود الشرع والفرض والواجب، وفرض الكفاية، والصحة والإجزاء، ومسألة خلق القرآن، والتكليف بالمحال، والاتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء، وغير ذلك من المسائل. أما عن قضايا المخطوطة الرئيسة فهي: البيان والمبين، والمطلق والمقيد، والمفهوم، والنسخ، والإجماع، والقياس، والتعادل والترجيح، والاجتهاد والإفتاء والتقليد. ومن الملاحظ أن الزركشي أفاد من طائفة كبيرة من الأصوليين والفقهاء، الذين سبقوه، وأتى بالشيء الكثير من آرائهم المختلفة، ثم يأتي بعد ذلك برأيه، ويرجح ما قيل في هذه المسائل ويناقشه. ويختم بفوائد جليلة وآراء جديدة وفريدة، تعتبر – بحق – إضافات مهمة ومتميزة للإمام الزركشي، على حد كلام الدكتورة خليفة. واعتمدت المحققة في تحقيق المخطوطة على مخطوطتين، الأولى في دار الكتب المصرية برقم (22059 ب) وهي تقع في (244) صفحة من القطع المتوسط، وفي الصفحة الواحدة (12 سطراً) وفي كل سطر (8) كلمات في المتوسط، وقد انطمس الجزء الأكبر من الصفحة الثانية، والثالثة، والسادسة عشرة، ونسخت بخط جميل وواضح، وهي الأصل في التحقيق. والمخطوطة الثانية: في دار الكتب المصرية أيضاً، وهي برقم (22201 ب) وتقع في (123 صفحة) من القطع المتوسط، ومسطرتها (22 سطراً) في الصفحة الواحدة، وفي كل سطر (9) كلمات في المتوسط، وهي منقولة عن سابقتها الأصلية، كما هو مذكور في آخرها، وهي منسوخة بتاريخ (1360 ه) الموافق 18 كانون الأول (ديسمبر) 1941م، وهي منسوخة بخط دقيق، ومُعَنْوَنة بالحُمْرة. يقول الإمام الزركشي في مقدمة المخطوطة: يقول العبد الفقير، الراجي عفو ربه القدير، عبد الله وفقيره، محمد بن عبد الله الزركشي الشافعي «الحمد لله الذي أرشدنا إلى ابتكار هذا الأسلوب، والمنهج الذي يظفر فيه الطالب بالمطلوب، حمداً يمنح المزيد ويهدي إلى صراط العزيز الحميد». وأما في خاتمة المخطوطة فيقول: « قال، وأصل الوجهين أن تقليد ذلك المُسْتفتِي هل هو لذلك المفتي؟ أو لذلك الميت أي صاحب المذهب؟ فيه وجهان: فإن قلنا: للميت، فله أن يُفتي.. وإن قلنا: للمفتي ليس له ذلك، والله أعلم تمّ الكتاب».