ربما لم يتصوّر كثيرون أن هذا الموظف الصغير في وزارة الإتصالات المصرية، وقد دخلها بفضل ماجستير في الهندسة الإلكترونية، سيصبح أحد علماء أسلحة المستقبل في بلاد «العم سام»! والحق أن خبرته الأولى مع المجال العسكري جاءت بسبب تعيينه ضابطاً فنياً ومُدرّساً في «معهد الدراسات العليا للدفاع الجوي» التابع للقوات المسلحة المصرية. وبعد سنوات قليلة، حصل محمود الشريف على منحة للدراسة في الولاياتالمتحدة. والتحق بجامعة بنسلفانيا. وعام 1983، انخرط في بحوث عن إبتكار الشاشات الإلكترونية المُسطّحة. وبعدها، انتقل الى الدراسات المعمّقة عن الليزر والألياف البصرية Fibroptics التي تستخدم في الشبكات الرقمية، مثل الإنترنت. وعاد الشريف الى مصر. وعُيّن عميداً لمدرسة الهندسة، التي ساهم في إنشائها أصلاً، في «كلية الدفاع الجوي». وبعد سنتين، خرج من الخدمة العسكرية لينضم مجدداً الى جامعة دريكسيل الأميركية. وهناك، عمل مشرفاً على الدراسات العليا. ثم صار رئيساً ل «مركز بحوث الليزر والألياف البصرية» الذي ساهم في تأسيسه أيضاً. ذكاء المادة الجامدة أنجز الشريف (68 سنة، يحمل الجنسية الأميركية) خلال مسيرته العلمية عدداً وافراً من الدراسات والبحوث، تركّزت على المواد الذكية والليزر، إضافة الى الألياف البصرية المستخدمة في شبكات نقل المعلومات. وفي لقاء مع «الحياة» تحدث الشريف عن تكنولوجيا المواد الذكية Smart Materials التي تتشكل من مجموعة مكوّنات أساسية وبسيطة، تُزوّد بمجس حساس فائق الصغر. ينهض المجسّ بمهمة استشعار الأشياء من بُعد، وإيصال الإشارات والمعلومات والصور عبر ألياف بصرية رفيعة، تُشبِه شبكات الاعصاب عند الإنسان. وبذا، تصبح لهذه المواد القدرة الفائقة على استشعار الغازات وموجات الإشعة، والتعامل مع المعلومات وتناقلها، والتحكّم بالآلات التي تُكيّف الحرارة، بل تصل الى مرحلة أخذ «القرارات» في مواجهة متغيّرات معيّنة. واستخدم الشريف هذه التكنولوجيا في مجالات صناعية عسكرية ومدنية، ما جعله من العلماء المنخرطين في صنع أسلحة المستقبل المتطوّرة. ويظهر ذلك في إنخراطه في تصميم البسة عسكرية ذكية Smart Uniform مصنوعة من اقمشة تستشعر محيطها، بما فيها موجات الاشعة والغازات السامة التي تشكل خطراً على حياة العسكريين. كما تستطيع هذه الملابس أن تنبئ مرتديها من الجنود، عن أحوالهم الصحية. وإذا تعرضوا لإصابات في ميادين القتال، ترسل هذه الملابس الذكية إشارات لاسلكية الى مراكز القيادة، التي تصبح على علم بأوضاع جنودها بصورة مباشرة. وبيّن الشريف أن مشروع الملابس العسكرية الذكية استغرق خمس سنوات، مع تكاليف فاقت ال 8 ملايين دولار. وفي السياق عينه، عمل الشريف على تصميم مظلات هبوط عسكرية ذكية Smart Parachute. وتتميّز هذه المظلاّت الضخمة بإحتوائها أليافاً بصرية، ومجسّات للاستشعار من بُعد Remote Sensors. وتعتمد هذه التكنولوجيا على حسابات القوة، بمعنى إقامة توازن دقيق بين قياس قدرة المظلات على التحمّل، والقوة المطلوب توظيفها في عمليات عسكرية مثل إنزال آلية ثقيلة. وترسل المظلات الذكية هذه المعلومات إلى محطات أرضية، تتولى إعادة بثها الى مراكز القيادة. واشتغل الشريف على تصميم ملابس طبية مخصصة للمرضى، ومزودة بأجهزة استشعار ما يجعلها قادرة على جمع معلومات عن حال مرتديها، ومتابعة أحواله الصحية يومياً، وصولاً إلى تشخيص الأمراض، وتحديد الأدوية اللازمة للعلاج. وتُغني هذه الملابس عن الاستعانة بالطواقم الصحية. وقد شرع استخدام هذه الملابس من قِبل رجال الاطفاء والاسعاف في الولاياتالمتحدة. سيراميك لمركبات الفضاء وعمل الشريف في مشروع لحساب «وكالة الفضاء والطيران الاميركية» (ناسا)، بفضل ابتكاره أليافاً بصرية مصنوعة من السراميك، ما يمكّن من وضعها في دواخل المواد المعدنية الثقيلة، كتلك التي تصنع منها مركبات الفضاء. وتتمتع هذه الألياف بالذكاء أيضاً. وتقيس مجسّاتها قوة تحمل المواد المعدنية، وتقيس الطريقة التي تتفاعل بها مع محيطها، كما ترسل إنذاراً في حال حدوث خلل في الآلات المصنوعة من هذه المعادن، إذ تتميّز الألياف الضوئية المصنوعة من السيراميك بالقدرة على تحمّل درجات حرارة تصل إلى 3 آلاف فهرنهايت، في حين لا تتجاوز قدرة التحمّل عينها في الألياف الضوئية، ال 600 فهرنهايت. وأشارالشريف الى انه استخدم هذه التكنولوجيا لحساب اليابان، التي استعملتها في المركبات الفضائية. وابتكر الشريف تقنيات متقدمة في صنع الدوائر الإلكترونية والضوئية، المستعملة في أجهزة الكومبيوتر والخليوي. وتساهم هذه التقنيات في صنع رقاقات إلكترونية متناهية الصغر، مع إستهلاك مقدار ضئيل من الطاقة. وأشار الشريف إلى ان هذه الرقاقات يمكن إدخالها في القماش أيضاً، ما يفتح المجال أمام استعمالها في كثير من المنتجات العسكرية. وتوصّل الشريف أيضاً الى استخدام مكونات جديدة من الألياف الضوئية، تصل كفاءتها في نقل المعلومات الى درجة الكمال، بمعنى أنها لا تفقد أي معلومة تُبث عبرها، كما تلغي الحاجة إلى استعمال الألياف الضوئية التقليدية وموجات الراديو الصغيرة (مايكروويف)، في بث المعلومات. وأسّس الشريف شركتين مستقلتين للبحوث. تعمل الأولى في الإتصالات الذكية، وتحمل اسم («فوتونيكس» photonics)، في إشارة الى ضوء الليزر المستخدم فيها. وقد تأسّست في العام 1987. وتشتغل الشركة الثانية في المواد الذكية والألياف البصرية المخصصة لمشاريع وزارة الدفاع الاميركية. ويتمتع الشريف بمكانة علمية مرموقة اذ سجل 20 براءة اختراع في الولاياتالمتحدة وخارجها. ونشر اكثر من 140 بحثاً. واشرف على 20 رسالة ماجستير ودكتوراه. ومُنح جائزة من الرئيس الراحل أنور السادات تقديراً لخدماته العسكرية. ونال الميدالية الذهبية من رئيس جامعة دريكسيل لتميزه في التدريس والبحوث. وحاز جائزة التقدير من وكالة «ناسا».