مع كلّ ما نشهده من تقدم علمي وتكنولوجي وانتفاضات شعبية وثورات، نجد أنفسنا أمام سؤال جوهري: هل ما زال للفلسفة دورها الرئيسي؟ وهل نحتاج أصلاً إلى فلسفة مغايرة لما سلف؟ لا شكّ في أنّ الفلسفة تعيش اليوم أزمة هوية، ودورها إلى انحسار واضمحلال في شتى ميادين المعرفة. فالفلسفة بما هي «تفكير عقلي نظامي في مبادئ المعرفة والوجود والعمل يتوخى الحقيقة النهائية»، وفق ما يعرّفها ناصيف نصار، قد جنَحت بعيداً في الميتافيزيقيات والمثاليات، وانزوت في برجها العاجي من غير الالتفات إلى واقع الإنسان وحياته ومشكلاته، أو تقديم أجوبة شافية. لذا، توجّب على الفلسفة أن تنحى منحى آخر، وتسعى إلى سلوك اتجاهات خارج الأطر التقليدية لتاريخية مذاهبها، وهذا ما يشي به كتاب «معرفيّات ومسلكيّات - الفلسفة في خدمة الإنسان» (دار المشرق) للباحث الفلسفي والأكاديمي اللبناني جيرار جهامي من خلال مجموعة توصيفات ومقاربات تتّعظ بالماضي وتستقرئ الحاضر لتستشف آفاق المستقبل وتحولاته. وجاء الكتاب في مقدمة عن حضورية الحاضر، وثلاثة فصول أولها بحث في جدلية المعرفيّات المنفتحة، وثانيها في تفاعليتها مستقبلاً، وثالثها في المسلكيات الفاعلة والسلوكيات الفعلية. وفي الخاتمة بحث في حضورية الحاضر. ينطلق جهامي في محاولة تكوين معرفيات تُعيد تحديد مسار توجيه العقل من الذات أو الطبيعة إلى الفرد ومنه إلى الجماعة، أي تَحوّل المعرفيات من حدود النظريات إلى تأسيس معارف مسلكية معيارية. فلا انفصال بين المعرفيات والسلوكيات، وإنما تواصل دائم. فهو يدعو إلى تقعيد هذه السلوكيات على قيم مستلهمة من خلقيات الحاضر، وتسليحها بالعلم والمعرفة. يحاول المؤلف، إذاً، أن يعيد إحياء دور الفلسفة، وتحديد هذا الدور في إطار خدمة الإنسان، داعياً إلى «وضع حدٍّ للفصل بين الفكر الفلسفي الخاص، والفكر الجدلي العوامي، وإلى وصل ما يمكن استنباطه من الفلسفة وتوظيفه في سبيل توعية المقدار الأكبر من الناس، خصوصاً المثقفين منهم» كما يقول. فالفلسفة لم تعد تقتصر على قضايا العقل والوجود والميتافيزيقا، بمقدار ما اخترقت العلوم كلها: من الاقتصاد إلى التكنولوجيا، إلى السياسة، فالأدب والاجتماع... إنها حاجة ثقافية تتيح لنا إعادة النظر في أوضاعنا، ومشكلاتنا، وحقوقنا، وتخلّفنا، وقيمنا. ولئن كان الإنسان هدف الفلسفة، كما يقول جهامي، فذلك يستدعي منا القيام بقراءة نقدية انطلاقاً من الراهنيات وما يتأتى عنها من مستقبليات. وهو يتطرق إلى الأحداث المتسارعة والمتناقضة التي تشهدها مجتمعاتنا العربية، ويقارب أسباب فشل النهضويين في إرساء أسس نهضة عربية حقيقية (منها ربّما أنموذج الربيع العربي)، مع تجاوز عوائق تحققها. وفي هذا السياق، يقول جهامي إن الثورات الحالية وقعت في التناقض نفسه الذي قضى على النهضات السابقة، وإن على مستوى مختلف، كتحكّم الديكتاتوريات في مفاصل السلطة، واستغلال الدين لفرض طرائق عيش متخلّفة. ويرى أن الثوار (أو الثائرين) هم حائرون في أمرهم، لا ملامح واضحة في أهدافهم أو تصوراتهم لأنها نابعة من لا وعيهم الجماعي وليس من وعيهم المتبصِّر والمخطِّط. أما المفكرون والمثقفون، وبخلاف القاعدة، فنجدهم يتعقبون الثوار ليفقهوا أسباب الثورة، وطرقها، وأهدافها. إن وجود ثوّار واعين بجانب قلّة مثقفة أمرٌ صحي ومطلوب، ولكن الأهمّ تصدّر المثقفين هذه النهضة لتنظيمها فكرياً وعلمياً، وتغليب الروح العلمية والتقنية عليها، والتعامل بواقعية مع الأزمات. والمعادلة التي يرسي المؤلِّف دعائمها تتحدّد في: استرداد الحرية لاستعادة الهوية، وتحرير الفكر لتوطيد النظام الديموقراطي الجديد. من المفترض أن ترافق هذه المرحلة التحولية، أو الانتقالية - وهو ما نشهده حالياً - عوامل عدة لإنجاحها، منها الوسطية لإعادة التوازن بين الماضي والحاضر، المرونة والطواعية في مناقشة أفكارنا ومعرفياتنا وواقعنا وتقبّل النقد لنصل إلى «علمنة الحقيقة وتحريرها من الأيديولوجيات المضلِّلة»، ويبقى الأهمّ هو ملامسة الوقائع معرفياً وإيجاد ما يقابلها من مسلكيات عملية وسلوكات قابلة للتحقيق، وهذا ما يجعل الفلسفة في خدمة الإنسان. يُعيد جهامي الفلسفة إلى معترَك الإنسانية راعيةً، موجِّهةً، مستشرِفةً، خصوصاً بعدما غرقت طويلاً في مستنقعات الماورائيات، والمثاليات، والعقيديات، العقيمة منها تحديداً، من غير أن تأتي بأي معرفة يَفيد منها الإنسان حياتياً. لذا، كان لا بد من إشراك العلوم الإنسانية في صوغ أهدافها، ومبادئها، ومفاهيمها واتجاهاتها. فلسفة يكون الإنسان عِمادها، ومنطلقَ كل علم. فالعلوم الإنسانية وضعت كينونة الإنسان الناشطة الفاعلة في عالمه على محكّ النظر والتحليل، الاستقراء والاستنتاج. فأمسى عقله العلمي يعي ذاته الفعلية لا الماهوية فقط، داخل أطر حضوريّته الحسية والوجدانية والفكرية والاجتماعية امتداداً إلى سائر تمظهراته. إذاً، الفلسفة المنشودة هي فلسفة دينامية ثقافية، تنسجم مع الوافد لتبقى فاعلة ونافعة. فلسفة شمولية بطبيعتها، عقلانيتها متّسعة لمجمل معطيات الحضارة الإنسانية، لا تضيق برؤية ولا بعقيدة، ولا بنظرية ولا بقانون. فلسفة حوارية ببِنيتها، تتوخى الكسب المتبادل للمعرفيات والخبرات المسلكية في زمن التحولات العلمية والثقافية، غايتها تعميم التجارب قدر المستطاع كنماذج تُحتذى من البشر كافة. هذه النقاط أو الإشكاليات التي طرحها المؤلِّف، خصوصاً في ظلّ وجود الشبكة العنكبية والعولمة الثقافية، وإيماناً منه بضرورة تغليب الواقعية التجريبية على الطوباوية والمثالية بواسطة عقل معرفي تحاوري ونقدي في آن، هي فقط توصيفات وتقديرات ومقاربات لتلمّس درب الغد. فهو أراد لهذا الكتاب أن يكون مجرّد تمهيد لمشروع فلسفي جديد يرتكز على الحوار والتفاعل بين مجموعة من المؤلِّفين، ومن اختصاصات مختلفة، يلتقون حول موضوع محوري، ويدلو كل واحد بدلوه مبّيناً وجهة نظره واهباً من رجاحة عقله، فيتم تبادل الآراء والطروحات والرؤى المختلفة، توصلاً إلى نتائج عملية تُترجم فعلاً على أرض الواقع، خصوصاً بوسائل العلوم الإنسانية. لا يسعنا، ختاماً، وإزاء هذا العمل النقدي الفلسفي، أن نغفل عما تشهده الفلسفة اليوم من عمليات تشكُّل وإعادة بناء ونقد مستمر، ومن تغيّرات، إنْ لم نقل ثورات، تطاول توجُّهاتها وممارساتها وأهدافها. وما الطروحات التي يُقدّمها جهامي في مؤلَّفه إلا خير دليل على هذا التوجّه الفلسفي الذي يسعى إلى «إزالة الحواجز بين الفلسفة وعامة الناس والفاعلين في بقية المجالات والحقول. فلسفة تتغذى من تاريخها، بمقدار ما تتجدد بالانفتاح على ما تستبعده أو تعتبره نقيضها» كما يقول علي حرب. الحقيقة لم تعد حكراً على الفلسفة، فكل من يعيد توصيف إشكالية ما أو يُساهم في إيجاد وقائع وتبيّن حقائق يكون لها وقْع التأثير والتغيير، أو يُبدع في أيّ مجال من المجالات، له صلة بالحقيقة والوجود.