ما هي الرسالة التي بعثتها الثورات الشعبية في تونس ومصر وفي ليبيا واليمن (وربما في غيرها لاحقاً)؟ هذه الثورات تقول إن الشعب، في هذه المنطقة من العالم، اكتشف ذاته، وأكد حضوره بقوة على مسرح التاريخ، ليأخذ مصيره بيده. وهذه الرسالة تقول، أيضاً، بأن ما حدث في هذه البلدان يمكن أن يحدث في غيرها، بهذه الطريقة أو تلك، وأن المسألة هي مسألة وقت. إزاء ذلك ينبغي أن تدرك الحكومات (وبالأحرى السلطات) المعنية جيداً أن الشعب ليس فقط ما عاد يطيق العيش وفق الطريقة السابقة، وإنما هو بات، أيضاً، مستعداً لدفع الثمن، من حياته، لتغيير هذه الطريقة، وأن لا عودة إلى الوراء. وفوق كل ما تقدم فإن هذه الحكومات معنية، أيضاً، بإدراك حقيقة أساسية، مفادها أنها هي بالذات من دفع الشعب نحو الثورة، فمنذ عقود من الزمن ثمة أسباب مختلفة ومتنوعة، تدفع الناس نحو هذا المسار. ومثلاً، ثمة واقع الإفقار والتهميش، وهدر الثروات، ونهب الموارد، والحرمان من الحقوق والحريات الأساسية، وضمنها حرية الرأي والتعبير والحق في الاختلاف. وثمة تغوّل السلطات على المؤسسات والقانون والدستور، والحطّ من كرامات الناس، وامتهان مفهوم دولة المواطنين. أيضاً، ثمة عجز عن حل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن مواجهة التحديات الخارجية، كما ثمة عجز عن الانخراط في التاريخ العالمي، كأن العالم العربي كتب عليه البقاء خارج التاريخ، في حين أن دولاً كالصين والهند وتركيا وماليزيا والبرازيل تصعد في هذا العالم. وما يجب أن تدركه هذه الحكومات أنها هي، أيضاً، المسؤولة عن الطريقة التي يعبر بها الشعب عن نفسه، وبالضبط عن لجوئه إلى خيار الثورة، بعد أن طال صبره، وفقد أمله بالإصلاح (من فوق)، وبعد أن سدّت أمامه فرص التغيير بالطرق العادية والديموقراطية، وحتى من خلال الحوارات والبرلمانات والمناشدات. والثابت أن الذهاب الى التغيير عبر الثورة، بالذات، حصل لأن الحكام سدّوا آذانهم عن المطالبات بالإصلاح (خذ مثلاً دعوات الإصلاح التي تضمنتها تقارير التنمية الإنسانية العربية التي توالى صدورها منذ مطلع العقد الماضي)، ولأنهم أشاحوا بعيونهم عن معاناة الناس، وعن رغبتهم بالتغيير ومحاكاة العالم، ولأنهم فقدوا صلتهم بمحيطهم، وبواقع مجتمعاتهم، في ظل توهّم العظمة الذي يتملّك معظمهم. ومثلاً، فما الذي يفسّر سكوت معظم الحكام عما يجري في الشوارع المحاذية لشوارعهم؟ وما الذي يفسّر ادعاء كل منهم بأن الوضع عنده يختلف عن الوضع في «الشارع» القريب منه؟ وما الذي يفسّر ادعاء القذافي بأنه ليس ثمة تظاهرات، وأنه مجرد نوع من حسد، وأن الشعب الليبي مستعد للموت، حتى آخر رجل وامرأة (من أجله!)، وأن ما يجري مجرد هجمة من تنظيم «القاعدة» و «المهلوسين» و «الجراثيم» و «الجرذان»، في حين أن «نظامه» يتفكّك يوماً بعد يوم! ثم ما الذي يفسر ادعاء الرئيس اليمني (الذي كان ينوي الترشّح رئيساً مدى الحياة، وتوريث الحكم لابنه) بأن ما يجري في بلاده هو غريب عنها، وأنها مجرد عدوى من تونس ومصر، وادعائه بعد ذلك بأن ما يحرك هذه الكتل الشعبية في اليمن إنما هو غرفة عمليات في تل أبيب تشارك فيها إدارة البيت الأبيض! هكذا لم يعد ثمة مجال، ولا وقت، أمام أولي الأمر لإنكار الواقع البائس الذي آلت إليه أحوال شعوبهم ودولهم، بدلاً من فتح عيونهم على حقيقة أن شعوبهم سئمت التهميش والتغييب، وأنهم كغيرهم من شعوب العالم يتوقون الى الحرية والكرامة والعدالة والعيش في نطاق دولة مواطنين، أي في دولة مؤسسات وقانون، وأنه لم يعد من المقبول منهم إحالة هذا التدهور في أحوال بلدانهم، أو هذا الثوران في مجتمعاتهم، إلى مجرد تدخّلات أو مؤامرات خارجية. الآن، وبدلاً من كل ما تقدم، فإن جميع الحكومات معنية بإدراك حقيقة واحدة مفادها أن لحظة التغيير آتية حتماً، وأن الأجدى لها بدل إنكار هذا المسار أن تعمل على إدراكه، وتالياً مواكبته، ورعايته، بدل العمل على صدّه أو حجزه، أو الوقوف في مواجهته، لأن معاندة التغيير لن تؤدي إلا إلى مزيد من الشحن الداخلي، ومزيد من التمزقات والمعاناة. وبديهي أن هذا الأمر يتطلب منها إعمال العقل، والاحتكام الى المسؤولية الوطنية والأخلاقية، في التعامل مع هذه الرغبة بالتغيير، عن طريق الاعتراف بها واحترامها، وفتح المجالات أمام تمكينها، بالطرق الديموقراطية، لأن هذا الطريق هو الذي يحفظ كرامة الحكومات والمجتمعات معاً. ولعل ما ينبغي أن يدركه، أيضا المعنيون بهذا الأمر، أن أجهزتهم الأمنية والإعلامية والحزبية والمليشياوية لن تفيد شيئاً حين تدقّ ساعة الحقيقة، أي ساعة التغيير، بدليل تجربتي تونس ومصر. فالأجهزة الأمنية اختفت، أما الأجهزة الإعلامية والحزبية فإما ذابت أو سكتت أو «كوّعت» بالتعبير الدارج. ومعلوم أن معظم هذه الأجهزة بات مستهلكاً ومتآكلاً، والأهم أنها باتت تفتقر الى قضية تدافع عنها، فضلاً عن أنها أجهزة تتعيّش على واقع الفساد، ولا تلوي شيئاً سوى تعظيم موارد الثروة والنفوذ للقائمين عليها، وبثّ صورة وردية مخادعة لأولياء الأمور. وبالنسبة الى إسكات المطالب الداخلية بدعوى التصدي للأعداء الخارجيين، فهي ما عادت تكفي لتغطية واقع الفساد والتسلط، لا سيما إذا لم ترتبط بسياسة داخلية تكفل كرامة الشعوب وحرياتها وحقوقها، فالكرامة الخارجية ليست بديلاً عن الكرامة الداخلية، التي تؤمنها المواطنة الحقة، بما في هذه الكلمة من معنى. أما في شأن تخويف الولاياتالمتحدة (والغرب عموماً) من التغيير، بدعوى أن البديل هو الإسلاميون أو الفوضى، فهي لم تعد عملة تصرف في الخارج، ناهيك عن أن الولاياتالمتحدة لا تستطيع مواجهة الشعوب عندما تكتشف ذاتها، وتأخذ قرارها بتغيير واقعها، لا سيما إنها لم تعد قادرة على فرض ما تريد في أي مكان. وإلى جانب هذا وذاك فإن الولاياتالمتحدة (والدول الغربية عموماً) باتت ترى في معظم النظم السائدة نظماً مستهلكة، وبمثابة عبء أمني وأخلاقي عليها. وفي هذا المجال، تحديداً، فقد آن للحكومات المعنية أن تدرك أن الولاياتالمتحدة (والغرب) لا يهمها من يحكم العالم العربي، فهي لا تخاف «بعبع» الإسلاميين ولا القوميين ولا اليساريين. وفي الواقع فإن أميركا (والدول الغربية) جد براغماتية، وتتكيف مع كل جديد ومغاير، وتهمها مصالحها فقط، وفي المقدمة منها عندنا النفط، وعداه فإن كل شيء خاضع للمساومة والمقايضة. هكذا تعاملت أميركا مع نظام صدام في العراق، ومع نظام القذافي (على رغم شبهة تورطه بعمليات خارجية!)، وهي تتعامل مع النظام الإسلامي في تركيا، وتعاملت حتى مع النظام الإسلامي في إيران (خذ توافقاتها مع إيران في شأن أفغانستان والعراق مثلاً). وهي تتعامل، أيضاً، مع الأنظمة اليسارية في ساحتها الخلفية (أميركا اللاتينية)، كما أن أكبر تعاملاتها التجارية والاقتصادية تتم مع منافستها الصاعدة الصين. حتى الآن، تدلّ التجارب في تونس ومصر وليبيا واليمن أن المعنيين لم تصلهم الرسالة بعد، أو لم يستنتجوا العبر المتضمنة فيها، لذلك عاند بن علي في تونس ومبارك في مصر إرادة الشعب بالتغيير، والنتيجة كانت الثورة، والتغيير ب «الخلع». أما في ليبيا فإن القذافي ذهب الى حد التلويح بالدفاع عن سلطته إلى آخر نقطة دم، (من الصحرا للصحرا من بيت لبيت ودار لدار وزنقة لزنقة حتى آخر رجل وامرأة!)، داعيا الى حرب أهلية مدمرة، من دون أية مسؤولية وطنية أو أخلاقية. وفي اليمن فإن النظام ما زال يناور ويتردد بين التهديد والوعيد، بين الدفاع عن الوضع، بدعوى الحفاظ على الدولة، وبين الاستجابة لبعض مطالب المعارضة. وثمة أنظمة ذهبت حد طرح جرعة تقديمات لا تحل مشكلاً، ولا تشكل بديلاً عن الإصلاح الجذري الشامل، استجابة لإرادة الشعب والقانون الطبيعي للتطور. واضح، أنه بدلاً من كل ذلك، ثمة أمام الحكام والحكومات طريق آخر، عدا طريق الخلع بالثورة (والتي تتضمن مصادرة الثروة والتعرض لمحاكمات جنائية)، وعدا الحرب الأهلية المدمرة للبلاد والعباد (التي تتضمن مخاطر استدعاء التدخلات الأجنبية الكارثية والمريبة)، وهذا الطريق هو السير في ركاب الإصلاح والتغيير، عبر احترام إرادة الشعب، وإعادة الاعتبار لمقولة أن الشعب هو مصدر السلطات. لذلك على من يهمهم الأمر أن يدركوا تماماً معنى شعار: «الشعب يريد تغيير النظام»، أو «الشعب يريد بناء النظام»، وأن يتعاملوا مع هذا الأمر، لا بالطريقة الصعبة والإجبارية، وإنما بالطريقة السهلة الكريمة لهم ولشعوبهم، فقد آن الأوان لعقد جديد في هذا العالم العربي بين الحكومات والمجتمعات. * كاتب فلسطيني