تكاد «أدبيات» الثورات العربية تطغى هذه الأيام على المشهد الأدبي، حتى أن القراء - وأنا واحد منهم - بدأوا يشعرون بما يشبه الملل أمام المقالات والنصوص والشهادات الوافرة التي يتوالى نشرها هنا وهناك. الحدث المتنقل بين بلد وآخر جليل حقاً ورهيب، ومهما كتب عنه تظل الكتابة عاجزة عن موازاة الصدمة التي أحدثها في الذاكرة الفردية والجماعية، كما في الوعي فردياً وجماعياً. حمل الحدث مفاجأة لم يكن متوقعاً لها ان تحلّ بمثل هذه السرعة، فتفضح هشاشة الأوهام التي كانت السلطات تسلّطها على شعوبها. كان لا بدّ لهذا الحدث أن يحفز حماسة المثقفين أياً كانوا، وأن يشعل نار حميّاهم، فهم كانوا ينتظرونه بحرارة وشوق، طامحين الى إحداث حال من التغيير الذي طال انتظارهم له. وليست المقالات التي تفيض بها الصحافة الآن إلا ردّ فعل إزاء هذا الحدث واحتفالاً به وسعياً الى استيعابه. غير ان ما كتب - بغزارة - ليس إلا غيضاً من فيضِ ما سيُكتب لاحقاً، مع أنّ بعض الكتّاب لم يتوانوا عن إصدار الكتب التي ترافق هذا الحدث الذي لا يزال نضراً أو «طازجاً»، ويحتاج الى المزيد من النضج والترسّخ والانجلاء. لكنّ سيل المقالات والنصوص التي تجاوبت مع الحدث، لا يعني أنّها صالحة كلّها للقراءة والمراجعة، لا سيما أن الأفكار هي نفسها تتردد فيها، وكذلك المواقف وزوايا النظر. وكان من الطبيعي أن يصيب الملل القارئ إزاء هذا الكمّ الهائل من النصوص والآراء، ناهيك ب «البيانات» التي شكّلت ظاهرة لافتة جداً، فالبيانات التي تتالت والتي وقّعها مثقفون عرب في «الداخل» وفي المنفى، تكاد لا تحصى أيضاً. لم يتمكن المثقفون هؤلاء من البقاء صامتين، فعبّروا عن فرحهم الكبير بالحدث واستنكروا الماضي الديكتاتوري والقمعي والفاسد الذي ساد المجتمعات الثائرة، ودعوا الى تعميم هذه الثورة النقية التي طالما حلموا بها. توالت البيانات إذاً وكان من الصعب مواكبتها والاطلاع على الأسماء التي وقّعتها. هذه أجمل هدية يمكن أن يقدّمها المثقفون العرب الى الشعوب التي ثارت وانتفضت بالروح والكلمة والجسد على السواء. فهذه الشعوب حلّت محلّ معظم المثقفين وأدّت الدور الذي كثيراً ما عجزوا عن أدائه. ولكن يجب عدم تناسي العدد غير القليل من المثقفين الذين «نزلوا» الى الساحات والشوارع وشاركوا في التظاهرات وواجهوا أدوات السلطة وتعرّضوا للضرب والإهانة. معظم هؤلاء الذين ساهموا في «صنع» الثورة آثروا عدم توقيع البيانات. لقد شاركوا فعلاً في صنع الحدث، وهذا يكفيهم. فمن يجد نفسه في صميم الحدث لا يهمّه رفع بيان أو توقيعه. لقد وقعوا البيانات بجهدهم ومثابرتهم وعيشهم مع الشعوب تلك اللحظات الحاسمة. أما أطرف ما يمكن أن يواجهه قارئ بعض البيانات فهو ورود أسماء أصرّت على التوقيع متناسية الأفعال الشنيعة التي ارتكبتها في خدمتها لهذه الأنظمة وقادتها وفي مؤازرتها لها ثقافياً وتلميع صورتها وتزوير حقيقتها... أسماء معروفة في تواطؤها السلطوي لم تتلكأ عن توقيع البيانات، متجاهلة ماضيها القريب (جداً) أو حاضرها. لعلّ هذا أقصى ما يمكن أن تبلغه الوقاحة والصلافة و... أحد الفنانين المشهورين جداً شاهدناه في شريط «فيديو» مصوّر يحتفل ب «الأخ» معمّر في منزله بعدما شرّفه هذا الديكتاتور بزيارته، وقد دعا له مطربين ومطربات وراقصات ليحيوا السهرة، فلا يشعر «الأخ» بأي ملل ولا يتعكر مزاجه. هذا الفنان الذي خان ماضيه ولا سيما شخصيته الشعبية (غوار الطوشي) التي صنعت كلّ مجده، لم يتردّد في توقيع البيانات التي استنكرت وحشية القذافي وديكتاتوريته. لكنّ أسماء أخرى عُرفت بتواطؤها مع السلطات وانتمت الى «حظيرتها» وأفادت من هباتها وضربت أحياناً ب «سيفها»، لم نبصرها في لوائح موقعي البيانات المستنكرة. فضّلت هذه الأسماء أن تتوارى أو أن «تستتر» وتبتعد عن الضوء، مدركة ان الآثام التي ارتكبتها قد لا تمحى عن جبينها. لم تعمد هذه الأسماء الى تكذيب نفسها وماضيها، مثلما فعل سواها، ولا الى التحايل على واقعها وتزوير حقيقتها، فصمتت وخرست، مدركة ان الصمت هو الحلّ الوحيد. وقد يغفر هذا الصمت وعدم الكذب بعضاً من آثام هذه الأسماء التي بهرتها السلطة وأعمتها المناصب والألقاب والنعم الفائضة. هل يحق للمثقف أن يخطئ؟ هل يحق له أن يعود عن أخطائه التي ارتكبها؟ هل تُغفر له هذه الأخطاء؟... مثل هذه الأسئلة لا يجاب عنها بسهولة. بل إن الأجوبة نفسها لا يمكن أن تكون حاسمة. الأخطاء هي نفسها التي تحمل إمكان الأجوبة. فالأخطاء تكون صغيرة أو بيضاء حيناً وحيناً جسيمة وسوداء. لعلّ التاريخ وحده، كما عهدناه، قادر على أن يجيب عنها. ولكن لا يمكن انتظار حكم التاريخ، فهو قد يطول...