كان المشهد تاريخياً أمس في ميدان التحرير في قلب القاهرة. حضر رئيس الحكومة الجديد عصام شرف ليرسِّخ شرعيته، فأحرز أكثر من هدف بضربة واحدة، إذ بثَّ مزيداً من الاطمئنان بأن صفحة النظام السابق لن تطوى من دون حساب، وأن الفساد لن يتم السكوت عنه، كما أكد للمتظاهرين أنه يستمد شرعيته منهم، لكنه أظهر حرصه على عدم إغضاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة حين رفض أداء اليمين الدستورية في الميدان الذي خرج منه محمولاً على الأعناق، في مشهد لم تعتده مصر منذ أكثر من نصف قرن. وبدا المشهد في الميدان أقرب إلى احتفالية، وإنْ حَرِصَ المحتشدون على تكرار مطالبهم، قبل أن يعلنوا تعليق التظاهر أسبوعين لمنح حكومة شرف الفرصة، على أن يدعوا إلى اعتصام مفتوح بعد ذلك في حال لم تتم الاستجابة لمطالبهم. وحرص قادة التظاهرات على تأكيد رغبتهم في «دوران عجلة البناء»، في رد واضح على الانتقادات التي يوجهها إليهم أنصار النظام السابق. ودخل شرف إلى الميدان من دون حراسة تقريباً، يرافقه نحو 4 من رجال الشرطة العسكرية لإخلاء الطريق أمامه وحمايته من تدفق المحتشدين، الذين سعوا إلى مصافحته وحمله على الأعناق، قبل أن يعتلي المنصة إلى جوار رئيس «نادي القضاة» السابق القاضي زكريا عبدالعزيز، والقيادي في جماعة «الإخوان المسلمين» محمد البلتاجي، والإعلامي حسين عبدالغني الذين كانوا يتحدثون إلى المتظاهرين قبل حضوره. وبدأ رئيس الحكومة كلمته المقتضبة التي وجهها إلى المتظاهرين بتحية شهداء الثورة وأهالي الضحايا والمصابين. وقال: «جئت هنا بعدما كلفني المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي رعى هذه الثورة. أنا هنا لآخذ شرعيتي منكم. أنتم أصحاب الشرعية»، وهو ما دفع بالبلتاجي إلى أخذ مكبر الصوت مردِّداً: «الشرعية في التحرير، مش برلمان بالتزوير». وأضاف شرف: «كُلفت بمهمة ثقيلة، وهي تحتاج إلى صبر وإرادة وعزم، ولا يوجد مكان أكثر من ميادين التحرير في مصر لأستمدَّ منه الإرادة والعزم... أعدكم بأن أبذل كل جهدي لألبي مطالبكم. وفي الوقت الذي سأجد نفسي غير قادر على تحقيق مطالبكم، سأكون بينكم (في الميدان) وليس هنا (على المنصة)... أنهيتم الجهاد الأصغر واستعدتم مصر»، فقاطعه المتظاهرون بهتافهم: «الشعب يريد إسقاط أمن الدولة». لكنه تابع: «أرجوكم، فعلتم شيئاً عظيماً، والشيء الأعظم هو أن نعيد بناء مصر. أدعو الله أن أرى مصر بلداً حرّاً، الأمن فيه خارج الزنازين وأمن المواطن على القمة، وأن تكون أجهزة الأمن خادمة للوطن وللمواطن. أرجو أن تساعدونا في ذلك. هناك طلبات كثيرة سنعمل عليها». واختتم كلمته بالهتاف الشهير: «ارفع رأسك فوق، انت مصري». ودعا إلى الوقوف دقيقة حداداً على أرواح شهداء الثورة، بعدما رفض أداء اليمين الدستورية أمام المتظاهرين، رغم هتافهم: «احلف، احلف»، كما حضه القاضي عبدالعزيز على أن يقسم فقط على أن ولاءه هو للشعب، ليمسك شرف بالميكروفون ويؤكد أن شرعيته مستمدة من الشارع، قبل أن يهتف بلهجة حماسية: «ارفع رأسك انت مصري، ارفع رأسك أنت بطل»، ملهباً حماس المحتشدين الذين ردَّدوا الهتاف خلفه، قبل أن يحملوه على الأكتاف. وقبل وصول شرف إلى الميدان، كان مئات الآلاف يؤدّون صلاة الجمعة. ونظم شبانٌ حركةَ الدخول إلى الميدان والخروج منه عبر لجان التفتيش، التي نشطت مجدداً لمنع أي تدافع في الدخول. وأجرى عدد من المتظاهرين محاكمة رمزية لرئيس الحكومة السابق الفريق أحمد شفيق، بسبب مسؤوليته عن مقتل 11 شخصاً وجرح العشرات في الهجوم الذي شنه مؤيدون للنظام السابق على المتظاهرين بالأسلحة على ظهور الجمال والخيول. وطالب إمام مسجد عمر مكرم الشيخ مظهر شاهين، الذي خطب الجمعة، بتعليق الاعتصامات والتظاهرات موقتاً «حتى ينهض اقتصاد البلد مرة أخرى»، مشيراً إلى أن «البلد الآن في حاجة إلى عمل الجميع». وقال في خطبته إن «الحكومة الجديدة مطالَبة بتحديد جدول زمني لتحقيق باقي المطالب». وأدى المتظاهرون صلاة الغائب على أرواح شهداء الثورة بعد انتهاء صلاة الجمعة، ودعوا ل «ثوار ليبيا» بالنصر. وألقى الناشط السياسي القبطي الدكتور هاني حنا كلمة بعد الصلاة دعا فيها إلى «الحفاظ على وحدة المصريين وعلى مكتسبات الثورة حتى نهايتها». وتحدث عن فساد المسؤولين، قائلاً ان «من الطبيعي عندما يفسد الرأس أن يفسد الجسد أيضاً، وهو ما حدث خلال السنوات الماضية، من حيث زيادة الفساد في الدولة، إضافة إلى كمٍّ هائل من الخطايا، كالكذب والغش وعدم الانضباط». ودعا إلى «الصلاة من أجل أن يخلِّص الله مصر من الفساد». وزار نائب مرشد «الإخوان» خيرت الشاطر الميدان، في أول ظهور سياسي له عقب إطلاق سراحه من السجن أول من أمس، فيما انتشر أعضاء الجماعة في قلب الميدان، ورفعوا صوراً للقيادي «الإخواني» أسامة سليمان المتهم بتبييض الأموال في القضية الشهيرة ب «التنظيم الدولي للإخوان»، كما شوهد أبناء الأب الروحي للجماعات الإسلامية المعتقل في أميركا الدكتور عمر عبدالرحمن، رافعين لافتات تطالب المجلس العسكري بالتدخل لحضّ واشنطن على إعادته إلى بلاده. وأعرب القيادي في «الإخوان» محمد البلتاجي، عن ثقته في قدرة شرف على قيادة البلاد في هذه المرحلة، مشدداً على أن «المواطنين وشباب الثورة لديهم ثقة كبيرة في شرف، الذي يُعتبر نموذجاً للرجل المحترم الصادق». وأشاد بحرص رئيس الحكومة الجديد على «النزول إلى الميدان للحصول على الشرعية». وقال ل «الحياة» إن الاعتصامات والتظاهرات ستعلَّق أسبوعين لمنح الفرصة للحكومة الجديدة لأداء عملها، لكنه أكد أن «الميدان سيشهد تظاهرات حاشدة يتبعها إعلان اعتصام مفتوح الجمعة بعد المقبل في حال لم تتم الاستجابة لكل مطالب الثورة، وفي مقدمها حل جهاز أمن الدولة». وكان رئيس الوزراء المكلف التقى مساء أول من أمس وفداً من حركات شبابية في منزله، كما استقبل وفداً آخر صباح أمس قبل توجهه إلى ميدان التحرير، وتعهد تحقيق مطالبهم. وأفيد أن شرف استمع من الشباب إلى اقتراحات للتشكيل الوزاري المقبل، في مقدمها إطاحة وزير الداخلية محمود وجدي وتغيير سياسات الوزارة، فيما لوَّح شرف بأن استقالته جاهزة في أي لحظة إذا ما أُجبر على تنفيذ أي قرار لا يرتضيه. وشهدت أمس مدن العريش والشيخ زويد في شمال سيناء تظاهرات للمطالبة بالافراج عن المعتقلين، فيما خرج مئات الآلاف في مدن عدة، بينها الإسكندرية والسويس والمنصورة، للاحتفال بإطاحة حكومة شفيق والمطالبة باستكمال خطوات الإصلاح. في غضون ذلك، قرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة إجراء الاستفتاء الشعبي على التعديلات المقترحة على الدستور في 19 آذار (مارس) الجاري. وقال إن «عملية الاستفتاء ستبدأ في الثامنة صباحاً حتى السابعة من مساء اليوم نفسه». وسيتم الاستفتاء على تعديلات أُدخلت على ثماني مواد، هي المواد 75 و76 و77، المتعلقة بشروط الترشح للرئاسة وعدد الولايات، والمادة 88، المتعلقة بالإشراف القضائي، والمادة 93، المتعلقة بالفصل في صحة عضوية النواب، والمادة 139، الخاصة بآلية تعديل الدستور، والمادة 148، التي تحدد شروط إعلان حال الطورائ، مع إلغاء المادة 179، المتعلقة بإحالة المدنيين على محاكم عسكرية. وسيتم الاستفتاء أيضاً على إضافة فقرة أخيرة إلى المادة 189 ومادتين جديدتين برقمي 189 مكرر و189 مكرر (1) إلى الدستور، بهدف إلزام الرئيس المقبل بالدعوة إلى جمعية تأسيسية لصوغ دستور جديد للبلاد بعد ستة شهور من انتخابه.