قد يستغرق تشكيل نظام عربي جديد، على أنقاض النظام الآيل إلى السقوط وقتاً طويلاً. التظاهرات التي انطلقت من تونس إلى مصر وامتدت إلى ليبيا ستترك أثرها في تشكيل هذا النظام. صحيح أن المنتفضين في تونس والقاهرة لم يطالبوا بإعادة النظر في السياسة العربية، ولم ينظِّروا لها. لكن الصحيح أيضاً أن مطالبهم التي اقتصرت على الإصلاح في بلدانهم لن تتحقق إلا من خلال توجه عربي شامل يطاول الاقتصاد والسياسة. انتقال الثورة من بلد إلى بلد يدحض عملياً كل الدعوات إلى الانعزال ويسقط شعارات روجتها الأنظمة المنهارة، مثل»مصر أولاً» و»لبنان أولاً»، و»الأردن أولاً» كي تبرر التحاقها بواشنطن وعجزها عن رسم استراتيجية واحدة للمحافظة على الأمن القومي. ومثلما كانت هذه الأنظمة عائقاً أمام وضع هذه الإستراتيجية، كانت عائقاً أمام تطور شعوبها وتوجهاتها الديموقراطية، وأمعنت في الاستبداد والفساد، معتبرة أنها في منجاة من المحاسبة طالما أنها تنفذ ما يطلبه منها «المجتمع الدولي». الأنظمة المنهارة، وتلك الآيلة إلى السقوط اعتبرت الانتفاضات الشعبية مجرد احتجاج على سوء توزيع الثروة وتمركزها في يدي حفنة من الموالين لا يتجاوز عددهم الخمسة في المئة، في أحسن الحالات، فحاولت تحسين الوضع من خلال استحداث فرص عمل، وزيادة في الأجور وبعضها لجأ إلى تعديل وزاري واستبدال مسؤول متهم بالفساد بآخر. لكنها لم تتنبه إلى مسألة مهمة جداً، وهي إهدارها الكرامة الوطنية لشعوبها، خلال عشرات السنين. من هنا كانت استعادة الثورة المصرية شعار عبد الناصر «إرفع رأسك»، وشعور المصريين بأنهم استعادوا هذه الكرامة. سلوك تلك الأنظمة جعل جزءاً كبيراً من شعوبها يتطلع إلى إيران وتركيا اللتين أدركتا أن مصلحتهما وكسب نفوذ يساعدهما على التأثير في محيطهما وفي لعب دور في السياسة الدولية لا يمكن أن يكون في معاداة توجهات هذه الشعوب، في حين تعاطت الأنظمة العربية مع مواطنيها باعتبارهم قطعاناً جاهلة، يمكن توجيهها حيث تشاء، ما جعل نظاماً راسخاً مثل النظام المصري يقف في مواجهة أكثر من نصف شعبه. المفارقة أن تلك الأنظمة اتهمت المطالبين بحقوقهم بأنهم يتحركون ب «أجندات» خارجية. النظام المصري حاول زج اسم إيران، متهماً المنتفضين بتلقي أوامر منها، في حين بينت التطورات أن لا علاقة لهم بأي جهة خارجية، والعكس صحيح، أي أن النظام كان يعتمد في بقائه على الدعم الخارجي وعندما تخلى عنه الخارج (الولاياتالمتحدة) ظهر عارياً. وعلي عبدالله صالح اليوم يتهم المتظاهرين بأنهم يتحركون بأوامر تصدرها إليهم «غرفة» في تل أبيب يديرها أميركيون وإسرائيليون، فضلاً عن تنظيم «القاعدة». لكن أحداً لم يصدقه أو يأخذ اتهاماته على محمل الجد، وها هو يخوض حرباً ضد مواطنيه. لا مبارك ولا بن علي من قبله استطاع الوقوف في وجه حركة التاريخ. ومصير القدافي لن يختلف عن مصيرهما. لذا نستطيع توقع تأسيس نظام عربي جديد. من ملامحه، حتى الآن، دور أكبر للشعوب في وضع السياسات الداخلية والخارجية، والمزيد من الاستقلالية في القرارات المصيرية.