يتضفر السرد في فيلم «الكنز» للمخرج شريف عرفة، من أربع حكايات: الحكاية الإطار التي تبدأ من الشاب حسن بشر (أحمد حاتم) الذي يدرس «علم المصريات» في أوروبا ويضطر إلى العودة مع احتضار عمه عام 1975، لبيع بيت أبيه بشر الكتاتني (محمد سعد) الذي ترك له فيديو يعرض حكايته الثانية، وكيف أصبح رئيسً للبوليس السياسي في عهد الملك فاروق. كما ترك لابنه أوراق الحكاية الثالثة وهي سيرة علي الزيبق التي تعود إلى العصر العثماني، ويجسد شخصيتي الزيبق ووالده «حسن راس الغول» في الفيلم، الممثل محمد رمضان. أما الحكاية الرابعة فضمتها أوراق بردي تعود الى عهد الملكة حتشبسوت (هند صبري) متحدثة عن اعتلائها العرش وغرامها بالمهندس سيمنوت (هاني عادل) الذي بني معبدها الشهير. أربع حكايات تغطي حوالى 3500 سنة، وهو مدى زمني هائل. فما المبرر الدرامي كي تضم الحكاية الإطارية هذه الحكايات الثلاث؟ وهل بالإمكان استبدالها بحكايات أخرى، تشير إلى نفس العصور: الفرعوني، العثماني، الملكي؟ إن سؤال الروابط بين حكايات الفيلم، يفرض نفسه عند تقديم أي قراءة جادة له. عودة الغائب أول رابط يتمثل في عودة الشاب الغائب، الذي جاء أداؤه باهتاً، إذ بدا مجرد متلقٍ سلبي للماضي المعروض أمامه. أتاه الخادم النوبي بحكايات الأب ووضعها أمامه. وبذلك سلبه صناع الفيلم أيّ دور جدي في البحث حقاً عن كنز، أو عن سر يعطي حضوره قيمة في قراءة ونقد التاريخ. والمدهش أن الأب - باعث الحكايات - لم يكن مؤرخاً وطنياً، ولا مناضلاً، بل كان رئيس البوليس السياسي لم يتورع عن سجن شقيقه، والزواج الوصولي، والتلاعب بمغنية الملهى لحضّها على الارتباط به! وسجن كل من تمردوا على السلطة من شيوعيين وإخوان وقوميين. والحقيقة أن أسوأ مفارقات هذا الفيلم أن الأب بدوره السلطوي المشبوه، هو نفسه صاحب الرسالة التاريخية «الخيرة» لابنه الوحيد! والمدهش أكثر أننا بعدما نطالع حكايتيه: الزيبق، وحتشبسوت، لا نجد فيهما أكثر من المعلومات الرائجة في «الويكيبيديا»! على رغم أن شاباً تخصص في «المصريات» في جامعة أوروبية، يعلم أضعافها، ولن يجلس منبهراً بها! حتى المشاهد التي حاولت تعميق شخصيته مثل تذكره قبيل سفره لمشهد تفجير السيارة التي تقله، جاء مبتوراً مثل علامة استفهام. لماذا محاولة قتل طفل؟ ومن فعلها؟ الخبيئة ثمة شعور في اللاوعي الشعبي أن تحت بيوت المصريين «خبيئة» عابرة للزمن، وبينما لا تكاد تذكر كلمة «الكنز» في حكاية حتشبسوت، فإنها تتكرر في بقية الحكايات، وتحمل عنوان الفيلم: «الكنز: الحقيقة والخيال». فنرى «الكلبي» يطلب من الزيبق أن يدله على الكنز مقابل أن يزوجه ابنته ويقاسمه السلطة، والزيبق نفسه حاول التنقيب عنه، و «بشر الكتاتني» يحدث ابنه عنه. لعل «الكنز» يكمن في الرحلة ذاتها وليس في الوصول، ربما هو إشارة إلى التمسك بالجذور، والأرض، والهوية. على رغم أن هذا المعنى المحتمل قد يكون محبطاً لبعض الجمهور حين ينتهي الفيلم ولا يتم العثور عليه. حارس البوابة الصوفي، حارس بوابة مصر، ظهر بثلاثة أقنعة: الحكيم الفرعوني «إني»، «الشيخ علي الله» دليل الزيبق، و «الشيخ السجين» في عصر فاروق، وهي شخصيات جسدها جميعاً عبدالعزيز مخيون، ربما لتكريس فكرة الأقطاب الحراس العابرين للزمن. لكن تلك الشخصية الممتدة لم تستثمر لتلعب دور الراوي - مثلاً - وتربط بين حكايات الفيلم، اكتفاء بدور الناصح لكل من «حتشبسوت» و «الزيبق»، ثم حضور مفتعل في حكاية «بشر الكتاتني». الأقصر والحب والكهنة اختيرت الأقصر أو «طيبة» عاصمة مصر القديمة، كبؤرة تجمع الحكايات كلها، على رغم ما في هذا الاختيار من تحيز للجنوب، على حساب الشمال، باعتباره ممثلاً أوحد للهوية والجذور. حسن يعود إلى بيت أبيه في الأقصر، وعلى مرمى بصره بيت مجهور عاش فيه الزيبق، وغير بعيد عاشت حتشبسوت حيث معبدها الشهير. تلك العودة المكانية، كانت الأفضل في ربط مصائر الشخصيات، وإعطاء تبرير درامي للحكايات، وإبراز نفس ملحمي، خصوصاً في ثلثه الأخير، وهو أفضل مقاطع الفيلم. وشكلت ثنائيات الحب، رابطاً خامساً، «حتشبسوت سيمنوت»، «الزيبق زينب» وجسدت شخصيتها روبي، وأيضاً «بشر الكتاتني المغنية نعمات رزق» ولعبت دورها أميمة خليل. لكن بلا امتداد أو تعميق لأي قصة، لأن الطرف الأول مشغول. أما دور الكهنة في تكريس فساد السلطة، فيظهر بجلاء في حكاية حتشبسوت عبر الكاهن الأكبر (محيي إسماعيل)، أحد أفضل الممثلين أداء لكنه يبهت في الحكايات الأخرى، حيث ثمة إشارة عابرة إلى المستشار الديني للوالي في قصة الزيبق. وإن كان التلميح لامتداد هذا الدور، بمثابة إسقاط على الواقع، وأننا إزاء تحالف عابر للزمن لسلطة القوة والفساد والقهر، في مواجهة سلطة العلم والحب والعدل التي حاولت حتشبسوت، ثم الزيبق، الدفاع عنها. أربع مشاكل نحن إزاء ستة روابط، وإن بدا معظمها باهتاً ومفتعلًا، ولم يستثمر على النحو الأمثل، لمزج الحكايات الأربع، بما يثير دهشتنا كمشاهدين، ويجعلنا نعيد اكتشاف ما كنا نتصور أننا نعرفه، أو نستنج معنى كلياً، أو إجابة عمّا يحيرنا. وعلى رغم الاجتهاد في الرؤية الإخراجية لشريف عرفة لا بد من ملاحظة ان الفيلم عانى من أربع مشاكل: *الرغبة في تلخيص حكايات تاريخية، وبث عدد لا بأس به من الشعارات والحكم و «الكليشهات»، فجميع الشخصيات تقريباً، تعطينا نصائح، بمن فيهم رئيس البوليس السياسي. ولم يقدم البناء الدرامي عن سيناريو وحوار عبدالرحيم كمال، معالجة مدهشة، للمرويات المعروفة. لأن هيمنة «المقول» أضعفت «المرئي» الذي هو جوهر السينما، والقادر على تجسيد ما يقال وما لا يُقال. فتكاد لا توجد مساحة للصمت والتأمل في أحوال الشخصيات وأفعالها، إذ تظهر على الشاشة كي تلقي كلامها الكثير، ضمن خلطة من الإسقاطات، كالإشارة إلى أزمة مياه النيل، وما يجري في دمشق، والطموح إلى قول كل شيء، عن السلطة والحب والدين والتاريخ والهوية. *سوء اختيار بعض الممثلين، فلا يعقل أن تكون سوسن بدر(60 سنةاً) زوجة شابة لديها طفل عمره تسع سنوات.. وتذبذب أداء البعض الآخر، مثل محمد سعد وإن اجتهد في التخلص من هزلية اللمبي، ومدير مكتبه أحمد رزق، أما محمد رمضان فقدم نفسه بطريقة مغايرة، وإن طارده شبح أحمد زكي أحياناً، وافتقرت هند صبري إلى الكبرياء الملكي. ومع افتقار الشخصيات- بدرجات متفاوتة -إلى العمق وصوتها الخاص، جاء الأداء نمطياً لدى معظمهم. *عدم إعطاء مزيد من الوقت لبناء المشاهد والبيئات والاشتغال على التمثيل وتحضير الأمور التقنية... فالمكياج جاء سيئاً، والموسيقى على رغم جمالها لم تنجح في خلق هوية ضامة لكل الحكايات، والديكور لم يكن في أفضل حالاته دائماً. فلو تناولنا حكاية بشر الكتاتني سنجد أن اللواء لم يظهر، ولو في صورة وحيدة، ببدلة الشرطة، وزوجته أبعد ما تكون عن «بنت الباشوات»، ولا ندري وقد أوشك على التقاعد كيف أنجب طفله فجأة؟ وأداء الممثل أحمد أمين كمونولوجست جاء بارداً، وأغاني المطربة لا تعطي الشعور بأجواء الأربعينات، وحتى المشهد الذي ظهر فيه فاروق نفسه لا معنى له. *غياب التوليفة التي تكثف الشريط في حدود 120 دقيقة، بدلاً من الثرثرة البصرية واللغوية الزائدة، وتضبط الإيقاع وتحقق وحدة الأثر والانطباع، وتخلق هوية الفيلم: هل هو ملحمي أم فانتازي أم تاريخي؟ وعلى رغم اجتهاد المونتاج – أحياناً- في ربط الحكايات بالتناوب، إلا أن الفيلم لا يرقى إلى القول إننا كنا أمام تحفة.