لم تأت الشرائع لتصحيح التصورات والمشاعر القلبية فحسب، بل جاءت لهذا وما هو أبعد منه، وهو تصحيح علاقة الإنسان بالناس من خلال تصحيح الأخلاق وتهذيبها. ولذا كانت الأحكام المتعلقة بالأخلاق والسلوك أكثرَ تفصيلاً في الكتاب والسنة؛ وإذا كان من أصول التدين حسنُ العبادة لله وتحقيق توحيده وإقامةُ فرائضه، فإن من أصول التدين كذلك حسنَ الخلق، كما يشهد لذلك حديث: «إنما بعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق». ومن تتبع نصوصَ الشرع وجد فيها قواعدَ تنتظمُ أحكامَ المعاملة والمخالقة، ومن المؤسف أن يتتبَّعَ بعضُنا قواعدَ التعامل والأخلاق في كلام الحكماء والأدباء، ويتغافل عن قواعد ذلك في الكتاب والسنة. ومن القواعد الشرعية في التعامل ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : «فمن سره أن يزحزح عن النار ويُدخلَ الجنةَ، فلتُدركْه منيتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحب أن يَأتوا إليه». ومعنى هذا أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، وألا تعاملهم بما تكره أن يعاملوك به. هذه القاعدة هي القانون العادل للحياة، فمقاربتها مقاربة للصلاح والإصلاح، ومجانفتها مجانفةٌ لسبل الصلاح والإصلاح. لا أحد من العقلاء يرضى أن يستخفَّه الناسُ، أو يسخروا من خلقته، أو يحقروا من شأنه، أو يطعنوا في نسبه وشرفه، أو ينالوا من عرضه، أو يأكلوا ماله بالباطل. فإذا كنت لا ترضى من الناس أن يعاملوك بشيء من هذه المعاملات، فإن الناس كذلك لا يرضون منك إلا ما رضِيْتَه منهم لنفسك. إنه لا معنى أن تغضب من احتقار الناس لقدرك ما دمت مقيماً على هذا الخلقِ الذميم (احتقارِ الناس). ولا معنى أن يستفزَّك طعنُ الناس في نسبك، أو لمزُهم لقبيلتك، ما دمت لا تجد حرجاً أن تطعن في نسبهم وتلمزَ عشيرتَهم. ولا معنى أن تحاول تأديبَ زوجتك لاستهانتها ببعض حقوقك ما دمت مضيعاً لحقوقها، مهيناً لكرامتها. وإذا كان الرجلُ قد استمرأ أن يأكل أموال الناس بالباطل غشاً وخداعاً، فلا معنى لِأَنْ يغتاظَ منهم إن هم غَشّوه وخادعوه؛ فهم لم يعاملوه إلا بما كان يعامل به غيرَه. وبهذه القاعدة الشرعية يقومُ ميزانُ القسط بين الناس بالحق والعدل، وهذه القاعدة تحملُ الإنسانَ على أن يُنصفَ الناسَ من نفسه ؛ حتى ولو لم يطالبوا بذلك، كما تقتل في الإنسانِ روحَ الأثرة ونزعة الأنانية الشيطانية، التي تسول له أن يعامل الناس بغير معيار ولا ميزان؛ إلا ميزان الهوى الذي ترجح فيه كفة المصلحة الشخصية، وتُحيي مكانها روحُ التجرد والإنصاف. وبهذه القاعدة الجليلة عالج القرآن والسنةُ نزعاتِ الهوى ونفثاتِ الأنانية البغيضة... اقرأ القرآنَ؛ لتجد فيه قولَه تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ». فنهاهم أن يقصدوا الرديء في إخراج الزكاة ليستأثروا هم بالجيد، وجاء النهي هنا على وفق هذه القاعدة الجليلة، مستقبحاً منهم أن يقصدوا إخراج شيءٍ لو أُعطوه لما أخذوه إلا على مضض، وبإغماضٍ عن كراهية. والرسالة هنا مفهومة، وهي: أنكم كما لا تحبون أن يعطوكم الناسُ الرديء من أموالهم ، فإن الناس كذلك لا يحبون أن تعطوهم الزكاةَ من رديء أموالكم. ثم انظر في سنة المصطفى؛ لتجد فيها معالجةً للانحرافات السلوكية بمقتضى هذه القاعدة الشرعية، فقد جاءه عليه الصلاة والسلام شابٌ عزَبٌ، فقال: يا رسول الله: ائذن لي في الزنا! فلم يعنفه مع أنه سأله كبيرة من أكبر الكبائر؛ لأنه لولا خوفُه من إثم الزنا لما جاءه يسأله أن يحلله له؛ ولكنه عالج مسألته بالحكمة والمنطق الصحيح إعمالاً لتلك القاعدة الشرعية، فقال له: أترضاه لأمك، فقال: لا، فقال : فكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم، ثم سأله: أترضاه لأختك؟ فقال: لا. فقال: فكذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم. ثم وضع يده على صدره ودعا له ، فقام من عنده وليس في قلبه شيءٌ أكرهُ إليه من الزنا. إننا حين ندعوا أنفسنا إلى التزام قواعد التعامل ، فإن ذلك لا يعني كما يزعم بعضهم أننا ندعو إلى مثاليةٍ مفرطةٍ متعالية على الواقع، متجاهلين طبيعة النفس البشرية، وما جبلت عليه من النقص وما رُكّب فيها من الشهوات. إننا ندرك أن المثالية صفة لا تتحقق إلا بالعصمة، وقد أبى الله العصمة إلا لرسله وأنبيائه، ففيهم تحقق الكمال البشري، ويظل من عداهم يقاربون هذا الكمال، ولا يدركونه، ولقد أمرنا الله بالاقتداء بنبينا ، وهو يعلم سبحانه أننا لن نبلغ شأوه، ولن ندرك منزلته، ذلك أن المقصودَ هو المقاربةُ، وإنْ تعذَّرت المطابقة والموافقة المطلقة. ونحن بفطرتنا نفرق تمام التفريق بين من يقع في الخطأ، ثم يسارع إلى التوبة ومجاهدة نفسه على عدم الرجوع، وبين مَن يستسلم لنوازع نفسه، ويصر على الخطأ حتى يصبحَ أسيراً له. والناس بفطرتهم يتغاضون عمن تقع منه هَنات يسيرة يقلع منها قريباً؛ لأنهم يدركون أن ذلك مفروضٌ بواقع طبيعة النفس المجبولة على الضعف والنقص؛ ولكنهم لا يغتفرون الخطأ ممن عُرف منه إصرارُه عليه واستهانته لعواقبه.