لا يكاد يمر يوم في روسيا من دون الإعلان عن تنفيذ إجراءات لطرد عدد من العمال الوافدين، بسبب مخالفات إدارية غالبيتها الساحقة تتعلّق بقوانين الإقامة والهجرة. يُطرد آلاف من العمال سنوياً، وتُمهر جوازات سفرهم بختم يحظّر عليهم دخول الأراضي الروسية لفترات تتراوح بين 3 و10 سنوات وفق طبيعة المخالفة. لكن المفارقة أن أعداداً كبيرة منهم تجد السبيل للعودة بأوراق ثبوتية جديدة، إضافة إلى عشرات الآلاف من العمال الجدد الذين يتحدّون صعوبات المرور على حواجز رجال حرس الحدود والجمارك، وينضمون إلى جيش ضخم من العمالة الأجنبية يعاني أفراده الأمرّين، من أجل الحصول على ملاليم يرسلونها إلى ذويهم شهرياً. وغدت مشكلة العمالة الوافدة من جمهوريات آسيا الوسطى، واحدة من القضايا دائمة الحضور عند الحديث عن مشكلات روسيا. خصوصاً في ظروف الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعاني منها البلاد. والاتهامات موجّهة دائماً ضد حوالى 10 ملايين وافد، في أضعف التقديرات، بأنهم جزء أساس من مصائب روسيا، من الجريمة ومعدلاتها التي تزداد طرداً كلما تعقّدت الأوضاع المعيشية، الى «احتلال» سوق العمل وحرمان ملايين الروس من فرصة للمنافسة، الى مشكلات كثيرة أخرى تتجه فيها الأنظار نحو الوافدين قبل غيرهم. «تخلّصوا من شرورهم» ولم يكن ينقص هؤلاء وأفراد عائلاتهم إلا مشكلة الإرهاب ومصائبه، لتضاف إلى سجلاتهم أسباب جديدة لشنّ حملات إعلامية متواصلة ضدهم، ولتضييق الخناق عليهم أكثر في مختلف مجالات الحياة. وعلى رغم أن المشكلة ليست جديدة، فهي برزت مع انهيار الدولة العظمى سابقاً، ولجوء ملايين المُعدمين من جمهوريات الاتحاد السوفياتي المنحل للعمل في روسيا، لكنها اتخذت أخيراً أبعاداً جديدة، انعكست مع تضييقات قوانين العمل والهجرة الجديدة، وبروز دعوات صريحة لتوسيع تنفيذ قوانين الطرد النهائي ل «تخليص روسيا من شرورهم». تشير تقديرات وزارة العمل ودوائر الهجرة الى وجود حوالى 10 ملايين وافد من جمهوريات آسيا الوسطى، خصوصاً من أوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان إضافة إلى مولدافيا. وتدخل غالبيتهم الساحقة ضمن تصنيف «العمالة غير الشرعية» باعتبار أنهم لا يملكون أوراقاً ثبوتية، وليسوا مسجّلين لدى الدوائر المختصة، ما يفاقم همومهم ومشكلاتهم المعيشية. فهم مطاردون دوماً وتلاحقهم عيون رجال الشرطة وهراواتهم في محطات قطار الأنفاق، ووسائل النقل الأخرى، وأماكن التجمّعات الحاشدة. وغالباً ما يكون الفساد المنتشر في روسيا نعمة على هؤلاء وليس نقمة، إذ ينتهي الجزء الأكبر من حملات توقيف الوافد الآسيوي الذي لا يمتلك أوراقاً ثبوتية، بدفع رشوة صغيرة للشرطي تنهي القضية في مكانها. أما إذا وصل الأمر الى تحرير مخالفة، فهذا يؤدّي الى التوقيف والمحاكمة ثم الإبعاد. لكن المشكلات المعيشية لجيش العمال الوافدين، لا تقتصر على هموم تخطّي الحواجز المتجوّلة لرجال الشرطة، والتفنن في التخلّص من احتمالات الوقوع في قبضتهم. فكل واحد من متطلّبات الحياة الأخرى، يعتبر هماً للعامل «غير الشرعي» مثل إرسال أولاده إلى المدارس التي ترفض غالباً استقبالهم، ما يساعد على رواج سوق التزوير للأوراق الثبوتية، التي تساعد في حالات كثيرة على تجاوز هذه المشكلة، وإن كان أبناء العمال الآسيويين يبقون «غير مرغوب بهم» في المدارس الحكومية، ليس فقط على المستوى القانوني بل على المستوى الشعبي أيضاً، ما يمكن تلمّسه بسهولة في الاجتماعات الدورية التي يعقدها أولياء الأمور في المدارس. ويكاد الأمر ذاته ينسحب على القطاع الصحي، فالعمال الذين لا يملكون أوراقاً ثبوتية لا تستقبلهم العيادات والمستشفيات العامة إلا في حالات الإسعاف، ولفترة محدودة لا تتجاوز ثلاثة أيام، عليهم بعدها الانتقال الى العلاج مدفوع الثمن، أو الانقطاع عن تلقيه إذا لم يمتلك العامل ثمنه. لا خيارات أخرى والصعوبات المماثلة التي يواجهها الوافدون، باتت جزءاً من نمط حياتهم، لكن المفارقة، إنهم لا يمتلكون خيارات أخرى. فالبقاء في روسيا على رغم كل متاعبها يوفّر لكثر منهم حداً أدنى من الأجر الذي لا يحصلون عليه في بلدانهم الأصلية. والجانب الآخر من المفارقة أن روسيا وعلى رغم الحملات العنصرية التي تثار ضد الوافدين أحياناً والتشديدات الصارمة في القوانين التي تلاحقهم، لكنها ليست قادرة على الاستغناء نهائياً عنهم، بسبب غياب البديل في القطاعات الكثيرة التي يشغلونها في سوق العمل. ويتخصص العمال الوافدون من طاجيكستان مثلاً في قطاع البناء والعمالة الرخيصة في قطاع الخدمات، إذ يكادون يحتلون تماماً سوق سيارات الأجرة. أما الوافدون من أذربيجان فيسيطرون تقريباً على أسواق الخضار والمواد الغذائية، يساعد في ذلك اعتماد روسيا في شكل كبير على الواردات من بلادهم من هذه المواد. ويعمل الأوزبيكون والمولدافيون في قطاع البناء أيضاً، إضافة الى مجالات الخدمات مثل الحراسة والنقل والعتالة (حمالون). وقادت التحوّلات التي شهدتها روسيا بعد عام 2014 وفرض عقوبات غربية اقتصادية إلى تغيّرات عدة في أوضاع العمال، خصوصاً بعدما أغلقت الآف الشركات الأجنبية والروسية أبوابها بسبب الأزمة الاقتصادية، واضطرت الى التخلّي عن العمال الذين وجدوا أنفسهم فجأة من دون عمل ثابت. ودفع ذلك كثراً إلى مغادرة روسيا في العامين الماضيين، ووفق تقديرات إدارة الهجرة غادر روسيا في هذه الفترة حوالى مليوني أوزباكي، ومئات الآلاف من الطاجيكيين، ما أدّى إلى هزة كبرى لم تطاول العمال وحسب، بل ضربت أسواق العمل عينها. ووفق التقديرات، فإن غالبية المغادرين كانت تمتلك رخص العمل وتصنّف ضمن «العمالة الشرعية». وتركت أماكنها لعمالة أرخص أجراً لكنها أقل احترافاً، كما أنها ليست مقيّدة بقوانين. وبعبارة أخرى، فإن من يشيّد بيتاً مثلاً، ثم يلاحظ مشكلات تحتاج الى تصليح، لن يكون في مقدوره العثور على طاقم العمل الذي نفذ المهمة كيفما اتفق واختفى نهائياً. والمشكلة المقابلة لذلك، تتمثّل في تدنّي مدخول البلاد الفقيرة في الفضاء السوفياتي السابق المصدّرة للعمالة بشكليها الشرعي أو غير الشرعي. ويكفي كمثال أن نصف الدخل في مولدافيا وطاجيكستان يعتمد على تحويلات العمال في الخارج (الجزء الأعظم في روسيا). وتصل هذه النسبة في قيرغيزستان إلى ثلث الدخل، وتبلغ في أوزبكستان أقل بقليل. مدّ وجزر وتسعى روسيا منذ سنوات إلى تقنين قطاع العمالة الوافدة، من دون أن تنجح في تحقيق تقدمّ يذكر، اذ ضربت الأزمة الخانقة حالياً جهود تطبيق قوانين الهجرة الصارمة، وعلى رغم الحملات الإعلامية العنيفة أحياناً ضد الوافدين، والتي لا تخلو في كثير من جوانبها من لهجة عنصرية، تركّز على الاختلافات الدينية والثقافية وحتى تشير إلى اللون أحياناً. فمثلاً هناك من يجاهر بأنه لا يريد أن يرى أبناءه يلعبون في حوش المبنى مع «السود» المختلفين عرقياً وثقافياً. لكن معلّقين آخرين يسألون بطريقة مغايرة رداً على الحملات، مثل: «وماذا سنفعل إذا غادر العمال الأجانب روسيا فجأة؟». يبقى السؤال معلّقاً، اذ ثمة قناعة بعدم وجود بدائل. لذا تمر الحملات على الوافدين بمراحل مدّ وجزر تبعاً للوضع، ويؤججها أحياناً وقوع جريمة كبرى، مثل عملية سرقة ضخمة، أو جريمة قتل تدفع الشرطة ووسائل الإعلام معاً إلى فتح الدفاتر القديمة، والتذكير بأن «90 في المئة من الجرائم يرتكبها وافدون» وفق معطيات مسؤول في وزارة الداخلية أخيراً. ثم يمر بعض الوقت وتعود الأمور الى الهدوء بانتظار حدث جديد. وفي إطار السعي الى البحث عن بدائل، طُرحت قوانين خلال السنوات الماضية، في مجلس النواب، بالتزامن مع تشديد قوانين الهجرة، بينها تقديم تسهيلات لتقنين أوضاع قطاع واسع من المهاجرين غير الشرعيين، و «تقييدهم» بقوانين الجنسية. وعلى رغم اعتراضات كثيرة، مرّ جزء من هذه القوانين وقدّمت تسهيلات كبرى مثلاً لحصول القيرغيزيين على الجنسية الروسية، واستفاد مئات الآلاف. لكن سرعان ما برزت مشكلتان أخيراً أظهرتا هشاشة الإجراءات، ما دفع إلى إطلاق دعوات لإعادة النظر فيها. وتمثّلت الأولى في تأثير تغيرات الوضع السياسي على تطبيق القوانين، فمثلاً خسر أوكرانيون كثر لم يتفقوا مع موقف موسكو في أوكرانيا أعمالهم وتجارتهم في روسيا. وفي فترة سابقة طرد عشرات الآلاف من الجورجيين الذين يتميزون عن الوافدين من جمهوريات آسيا الوسطى بأنهم أكثر ميلاً للتقيّد بالقوانين. ونفذت إجراءات الطرد بسرعة وحدة بسبب الخلافات السياسية بين البلدين. وغدا التعامل مع شركات البناء التركية بعد الأزمة بين موسكوأنقرة مثالاً جديداً على تدخّل السياسية في جهود تقنين سوق العمل. فهذه الشركات التي كانت الأضخم والأكثر نشاطاً في قطاع الإنشاءات في روسيا، تقلّص وجودها إلى الصفر في غضون شهور وتحوّل موظفوها وعمالها إلى جيش عاطل وغير مرغوب به. وبرزت المشكلة الثانية مع تنامي التهديدات الإرهابية في البلاد أخيراً، ومن سوء حظ العمالة الوافدة من جمهوريات آسيا الوسطى أن عدداً من الهجمات الإرهابية نفذها مواطنوها. مثل الهجمات الكبرى في تركيا التي تبيّن أن منفذيها من كازاخستان، ثم هجوم مترو الإنفاق في سان بطرسبورغ قبل شهور، والذي اتضح أن منفذيه من قيرغيزستان. ومع ارتفاع حدة الهجمات الإعلامية ومساعي تأجيج الرأي العام ضد الوافدين المتهمين سلفاً بأنه «قد تكون لهم ارتباطات بجهات متطرّفة»، برزت دعوات في مجلس الدوما لمراجعة قوانين تسهيل الحصول على الجنسية لمواطني قيرغيزستان، والتشدد مع الراغبين بتقنين أوضاعهم من آسيا الوسطى.