لم يجد أبو صلاح بديلاً من أخذ أبنائه إلى القصبة، حيث يعتصم عشرات الآلاف من التونسيين مطالبين برحيل الحكومة الموقتة. خطوة اعتبرها ضرورية لامتصاص إلحاح أولاده على الالتحاق بالمعتصمين. شارك الأبناء يصاحبهم والدهم أجواء القصبة التي شكّلت حديث الناس في تونس منذ أسابيع، واعتبر أحد الأبناء وعمره 10 سنوات حصوله على إحدى اللافتات المكتوب عليها «نعم للحرية لا للعنف»، حدثاً بحد ذاته، إذ إنه شارك في تظاهرة سلمية. وهذه الحكاية ليست فريدة، فالحديث عن السياسة أصبح خبزاً يوميّاً داخل الأسرة التونسية: نقاشات وأحاديث واختلافات في الرأي لم نعهدها لدى العائلة التونسية، حيث أخذت السياسة اليوم مكان الصدارة في المواضيع الأهم التي يتداولها عناصر العائلة الواحدة بعد أن كان أهمّ موضوع هو الرياضة وتحديداً كرة القدم الشغل الشاغل لغالبية التونسيين. ما تشهده تونس منذ 14 كانون الثاني (يناير) بات يشكّل حالاً استثنائية بكل المقاييس، اذ حتى وقت قريب لم تكن المواضيع السياسية تستهوي العائلة التونسية التي كانت في الأغلب لا تلتقي إلّا في آخر اليوم ولوقت قصير نظراً الى انشغال الأب والأم بالعمل طوال النهار والأبناء بالدراسة وممارسة الرياضة أو غيرها من الهوايات. وكان حيّز اللقاء والحوار قليلاً جداً، ولكن مع انطلاق الثورة اختلفت الأمور كثيراً وأصبح طبيعياً أن يختلف الابن مع أبيه حول هذا الوزير أو ذاك، وأن تصر الأخت على وجهة نظر قد لا تجد هوى لدى أخيها وهكذا. ويرى عبدالكريم أن أجواء البيت أصبحت ممتعة جداً، ويقول: «أصبحت فخوراً بأبنائي أكثر من أي وقت آخر، هم يناقشونني في تعيين الوزراء ويبدون آراءهم في شكل مباشر ومن دون تردد، ويتحدثون في شؤون سياسية واقتصادية تهمّ واقع البلاد ومستقبلها، وهذا أدهشني وأسعدني في آن لأننا لم نتعود مثل هذه النقاشات في أسرتنا، والأمر نفسه في غالبية الأسر التونسية». وفي السياق نفسه تحدثت السيدة ناجية وهي مدرّسة تعليم ابتدائي عن الأجواء التي أصبحت تطبع بيتها وكذلك فصلها في المدرسة وتقول: «في أول الأمر كنت أتعجب من بعض الأسئلة التي يطرحها أبنائي سواء في البيت أم في الفصل في المدرسة التي أعمل فيها، ولكن مع الوقت بات الأمر عادياً جداً، فالبلد كلّه يعيش على وقع الثورة في كل شيء ومن الطبيعي أن أسمع أسئلة مثل «لماذا يقف الجيش في وسط الطرقات؟» أو «لماذا لا نرى رئيس البلاد في التلفزيون كما كنّا دائماً؟» وغيرها من الأسئلة المشابهة والتي تجعلني سعيدة جداً بأبنائي». ومن ناحية أخرى يصر الشباب اليوم على فهم كل شيء ويستعينون بمن هم أكبر منهم سنّاً، وكذلك يبحثون في مواقع الإنترنت عن تفسيرات لمصطلحات سياسية كثيرة تؤرقهم ويصرون على فهمها، من ذلك معنى الحكم البرلماني أو المجلس التأسيسي أو كلمات مثل الماسونية التي سمعها الشباب التونسي كثيراً خلال الأيام الماضية قبل تغيير وزير الخارجية، وفي ذلك سعي واضح إلى فهم ما يدور حولهم. ويرى غسّان (17 سنة) أنّ ما يحدث غيّر كثيراً من طباعه وجعله ينسى محبته لفريقه الرياضي الذي يعشقه، ويتابع: «أنا الآن لا أهتمّ إلّا بما يحدث في تونس، منذ أول يوم في الثورة ودائرة اهتماماتي تغيّرت تماماً، أصبحت أناقش أبي في تفاصيل كثيرة وفي غير مرة يصفّق لي أو يقبّلني معبراً عن فخره بي. لم أكن أشاهد الأخبار مطلقاً واليوم بتّ أتنافس مع والدي ووالدتي وأخي الأصغر على مشاهدة الأخبار على عدد من القنوات العربية والأوروبية»، ويتشارك غسّان في حالته هذه مع الكثير من شباب تونس الذي أصبح يتحدث اللغة نفسها مع الشعب ككل، ما يعطي انطباعاً بتغيّر جذري في شكل العلاقة الأسرية في تونس. ويؤكد متابعون أن هذا يعتبر أمراً طبيعياً جداً وكان منتظراً أيضاً، لأن ما حدث في تونس لم يكن بالأمر السّهل مطلقاً، وليس مسألة عابرة بل هو واقع ملموس إمّا أن تنخرط فيه العائلة وتتعامل معه كأمر واقع وإما أن تعيش على هامشه وهو أمر مستبعد بحكم تواتر الأحداث يوميّاً وفي شكل متسارع جداً. وبات طبيعياً جداً اليوم أن تسهر الأسر التونسية على حديث سياسيّ قد يطول ويستغرق حيّزاً مهماً من وقتها، وقد يتفق أفرادها أو يختلفون، وأصبح من الطبيعيّ أيضاً أن يشرح الابن لأبيه وجهة نظره مستشهداً بما يحدث في تونس وفي دول عربية أخرى، ووصل الحديث بين بنت وأمها مثلاً إلى مرحلة أقنعت البنت والدتها بأن لا ضرورة لحكومة موقتة، وأن دولة مثل بلجيكا تعيش منذ أشهر من دون حكومة ومع ذلك فالأمور تسير في شكل طبيعي. هذا هو الواقع الجديد للأسر التونسية التي أصبحت تنام وتصحو على وقع السياسة ولا شيء غيرها، ما جعلها خبزاً يوميّاً.