قد لا تكون «أوبرا القروش الثلاثة» أجمل أعمال الكاتب الألماني برتولد بريخت. بل نعرف كذلك انها ليست وليدة خياله، بل مقتبسة من «أوبرا الشحاذين» لانكليزي القرن الثامن عشر جون غاي. ولكن من المؤكد، في المقابل، انها الأشهر والأكثر اقتباساً وترجمة. ونذكر في لبنان وبقية البلدان العربية كم ان هذه المسرحية قدمت، معرّبة حيناً ملبننة حيناً آخر وفي أحيان كثيرة كما هي في ترجمة مباشرة. ولكن إذا كانت مسرحية بريخت هذه قد نالت حظاً، مسرحياً وغنائياً كبيراً، في أنحاء كثيرة من العالم، فإن حظها مع السينما كان أقل، حتى وإن كنا نعرف ان السينما العالمية اقتبستها مراراً وتكراراً. أما الاقتباس السينمائي الأول لها فقد كان في العام 1931، أي في الفترة نفسها تقريباً التي اشتهرت فيها مسرحية بريخت بعدما قدمت في برلين وغيرها، على إيقاع أغنيات رائعة كتب كورت فايل موسيقاها. ولقد كان الاقتباس السينمائي الأول، من تحقيق المخرج الألماني ج. و. بابست، الذي كان يعيش أوج شهرته آنذاك. أما آخر الاقتباسات المحترمة، فكان من توقيع البرازيلي روي غويرا الذي حققه في فيلم موسيقي ذاع صيته، كما كان المسرحي بيتر بروك أول من اقتبس العمل سينمائياً في فيلم ملون في العام 1952 (وإن كان هو، اشتغل على «أوبرا الشحاذين» أكثر مما اشتغل على نص بريخت. ونعود هنا، اذاً، الى الاقتباس الأول، لنذكر قبل أي شيء آخر انه، بدلاً من ان يرضي بريخت ويفرحه، هو الذي كان منذ زمن بعيد يحلم بالتوجه نحو الفن السابع، احزنه وأغضبه الى درجة انه سرعان ما شمر عن كميه وانكب على تحقيق فيلمه الروائي الطويل الوحيد «كوهل فامب»، الذي يدنو من العمل كثيراً، في موضوعه وجوهره، إنما من دون ان تكون له حبكته نفسها. ومن هنا طوى النسيان العام فيلم بريخت، فيما ظل فيلم بابست حياً، وجزءاً من التاريخ الحقيقي للسينما خلال النصف الأول من القرن العشرين. اذ على رغم تحفظات بريخت واحتجاجاته، أحب النقاد دائماً كم الشاعرية الذي اسبغه بابست على نص مقرف في «حثالة» الواقع ووحول الأزقة والأخلاق المعدومة. ولعل هذه الشاعرية هي ما أزعج بريخت وجعلته يستنكف عن اعتبار فيلم بابست اقتباساً صادقاً وأميناً لأوبراه. والحال ان بريخت لم يخف في ذلك الحين عتبه على صديقه وزميله كورت فايل واضع الموسيقى الذي أمد بابست بألحان اضافية أغنت الفيلم وأضفت عليه شاعرية فوق شاعرية، اذ أضيفت الى أغاني الكاباريه والأناشيد الجماعية التي تشكل أصلاً مناخ هذا العمل. ومع هذا، لا بد من ان نقول ان بابست، وعلى عكس ما كان بريخت يتصور، أبدى أمانة لا بأس بها لعمل هذا الأخير، حيث اننا اليوم إذ نشاهد هذا الفيلم نكاد ننسى ان مخرجه هو صاحب «لولو» و «شارع من دون فرح» و «أسرار روح»، ليخيل إلينا ان بريخت نفسه هو المخرج. فيلم «أوبرا القروش الثلاثة» كما قدمه إلينا بابست، هو في الوقت عينه خليط من «الفودفيل» و «الميلودراما البوليسية» و «التهكم الاجتماعي» و «الشاعرية الشعبية» بحسب تحليل الناقد الفرنسي الراحل كلود بيكي... ما يعني انه، ودائماً بحسب هذا الناقد، «احتفال أسود» متكيف تماماً مع مناخ الأزمات التي كانت تعصف بأوروبا في ذلك الحين (مناخ الركود الاقتصادي الأميركي وانهيار البورصات وصعود النازية وتفاقم الستالينية... الخ). ولقد صور الفيلم، أصلاً، في نسختين، واحدة ألمانية والأخرى فرنسية، بالتقنية والسيناريو نفسيهما، ولكن مع ممثلين مختلفين. ولكن في الحالتين ظل مناخ العمل متأرجحاً بين «بؤسوية» فيكتور هوغو، والتعبيرية الألمانية، والفكاهة الإنكليزية السوداء. أحداث الفيلم لا تختلف كثيراً عن أحداث «الأوبرا» أو المسرحية، وهي تدور - كما في سيناريو الفيلم - في مدينة لندن، عند حقبة زمنية معاصرة بعض الشيء وإن كان من غير الممكن تحديدها بدقة. ومنذ البداية يطالعنا مغن جوال، هو أقرب الى الحكواتي، تحدثنا في نشيده عن مآثر اللص الظريف ماكي، الذي سيقال لنا ثم سرعان ما سنكتشف، انه يتزعم حي سوهو بأكمله. وحي سوهو اللندني كان في زمن الفيلم، ملكوت الفساد واللصوص والقمار والعاهرات والقوادين وكل ضروب الحثالات الاجتماعية. وماكي، بالطبع، يتزعم هذا العالم ويسيره وفقاً لمشيئته، يتحكم في الأعمال والأيام ورقاب العباد. ومن هنا نراه حين يتخلى عن صديقته جيني، يستبدلها سريعاً بحسناء أخرى هي بولي بيتشام، التي يريد إغواءها، وهي أصلاً ابنة ملك الشحاذين. وبالفعل يتمكن ماكي من عقد قرانه من بولي، عند منتصف اليل، وسط مرفأ مهجور، يطل على نهر التيمس. غير ان هذه الزيجة ما كان من شأنها أبداً ان ترضي بيتشام لذلك يستبد به الغضب ما ان يتناهى الخبر اليه، ويقرر ان يحارب ماكي، مطالباً رجال الشرطة بأن يبادروا الى اعتقاله على الفور... غير ان هؤلاء - في الحقيقة - لا يحركون ساكناً، لأنهم في الأصل مرتشون فاسدون، يوزعون ولاءهم بين ماكي وبيتشام ولكن من دون ان يفضلوا احدهما على الآخر. وهكذا لا يعود أمام بيتشام إلا ان ينشر رجاله في الأزقة لكي ينالوا من «صهره» غير المرغوب فيه. غير ان ماكي لن يقع أبداً في قبضة رجال بيتشام، ولا طبعاً في قبضة رجال الشرطة، بخاصة أن هؤلاء لا يتورعون عن مساعدة ماكي حين يضيق رجال بيتشام الخناق عليه. واذ تنتهي الصراعات بالتعادل، بينما كان بيتشام يرجو ان يتمكن رجاله من إلحاق الهزيمة بماكي في اليوم نفسه الذي كان قد تقرر ان يشهد تتويج بولي ملكة لسوهو، تنتهي الأمور نفسها نهاية سعيدة. إذ، تحت رعاية رجال الشرطة، لا يجد ملك اللصوص وملك الشحاذين بداً من ان يتصالحا، ومن ان يتقاسما الهيمنة على حي الحثالة، بعدما صارا الآن نسيبين. ويعود الهدوء بينهما، ليعيش الزوجان الجديدان بسعادة حبهما، وهيمنتهما على تلك الزاوية التي تشكل امبراطوريتهما الحقيقية. اذاً على خلفية هذه الحبكة البسيطة، كما تبدو للوهلة الأولى، رسم الفيلم - إتباعاً لأوبرا بريخت التي اتبعت بدورها نص جون غاي - مناخات زمن استشرى فيه الفساد واللصوصية والتسول، وصار الحكم لمن هو أكثر فساداً. ومن هنا لم يكن غريباً ان تخلد هذه المسرحية ويخلد الفيلم حتى الآن، طالما ان الأزمان سرعان ما تعود مستعيدة الخلفيات نفسها، في تواطؤ على الحكم بين لص ومتسول ورجل أمن ينظم العلاقة بينهما. ولكن لأن الجانب الواقعي المدين لهذا كله، والمصمم لمسألة علاقة السلطة «البورجوازية»، أي سلطة المجتمع الرأسمالي، بحسب بريخت، لم يجده بريخت الأكثر وضوحاً في فيلم بابست (1885-1967) قرر ان نصه قد غدر به من جانب المخرج الذي، بحسب بريخت، «ركز على جوانب الاحتفالية الشكلية على حساب المضمون الاجتماعي القوي»، تبرأ صاحب «الاستثناء والقاعدة» من الفيلم وحقق فيلمه الخاص. أما اليوم، فإن في وسعنا طبعاً، ان ننسى كل هذا الخلاف، وأن نشاهد «أوبرا القروش الثلاثة»، كما حققه بابست بمتعة، فكرية وشعورية، تكاد تضاهيها، محلياً في لبنان، تلك المتعة الخالصة التي استشعرها الجمهور حين شاهد في بيروت السبعينات، اقتباساً للعمل نفسه حققه تحت اسم «آخ يا بلدنا» المسرحي روجيه عساف من بطولة الفنان الكوميدي الراحل شوشو. يومها أيضاً، من خلال متعة الفرجة وشاعريتها، أحس المتفرجون انهم أمام عمل واقعي يفضح ذلك النوع من السلطة. [email protected]