تتصاعد رائحة الحلويات الفرنسية اللذيذة حيث يختلط أريج الكريما بالشوكولاتة والترافل بعبق حلوى البنوفي باي والبنيولاتا الإيطالية الشهيرة، تعانقهما البوكاسا وفينيكيا اليونانية من صالة شاي وحلويات «فينوس» الشهيرة في قلب الإسكندرية عند تقاطعي شارع فؤاد مع شارع النبي دانيال. هناك حيث اعتادت سيدات المجتمع الراقي التوقف، في أربعينات القرن الماضي، للاستمتاع بفنجان شاي وقطعة حلوى أو آيس كريم كاساتا أو جيلاتو، عقب جولتهن التسوقية بين جنبات أرقى محال الملابس والقبعات ومتاجر الأثاث والتحف الكلاسيكية والأنتيكات والأكسسوارات، حين كان يعج شارع فؤاد بها باعتباره شارع التسوق الرفيع للأسر الإسكندرية العريقة والجاليات الأجنبية المقيمة. ألقت عجلة الزمان بأثرها في جغرافية المدينة وديموغرافياتها، وخصوصاً منذ نهاية الستينات عقب التأميم ونزوح الجاليات الأجنبية، وما حصل من حراك سياسي واجتماعي تغير على إثره المجتمع السكندري المفتوح. كان المكان زاخراً بالأدباء والمثقفين والفنانين البوهيميين والمتسكعين الهواة الذين يجيدون التحدث بلغات عدة أحياناً في الجملة نفسها، وكذلك بالموظفين والعمال، حتى تحولت القصور الفخمة والدور الأنيقة إلى مبان حكومية ومدارس. ولم تسلم من ريح التغيير وظواهر التحول المحال وصالات الشاي ومتاجر الحلوى والمطاعم ذات النكهة الأوروبية المتوسطية. هكذا تحول مقهى «بسترودس» إلى مقهى ومطعم «أبو السيد»، واختفى «خاموس الإبراهيمية» و «إيليلت» وكان مقهى للشعراء وملتقى للفنانين، وتحول إلى الوجبات السريعة والكنافة والبيتزا. كذلك «فينوس» (نسبة إلى إلهة الحب والجمال عند الرومان) صالة الشاي والحلويات بين جنبات أعمدة على الطراز الروماني وقطع آرت نوفو وثريات نحاسية ذات توريقات دقيقة، إلى «غراند جاد» الذي يقدم الفول والفلافل. وتحولت رائحة الحلوى الفرنسية والكريما بالشوكولاتة اللذيذة والكعكات اليونانية والمعجنات والآيس كريم الإيطالية، إلى رائحة الزيت الذي تُقلى فيه كرات الفلافل الممزوجة برائحة الفول المتعدد النكهات المتصاعدة من السندويشات الساخنة بالطحينة والحمص، إلى رائحة الشاورما المتصاعدة من أحد الأسياخ المعدنية الموضوعة في الجزء الخلفي من المحل العتيق بجوار أحد الأعمدة المصممة على الطراز الكورنثي الروماني. يقع فينوس بين تقاطعي شارعين رئيسيين ويتسع لاستقبال 320 ضيفاً، وهو مقسم إلى صالتين، الرئيسية تطل على شارع فؤاد وفيها الخشب البني ذو الطابع الرسمي فيما تطل الأخرى على شارع النبي دانيال وامتازت باللون الأبيض الكريمي والخشب اللاكيه الأبيض. وكانت الصالة الثانية تحتوي على خزانات خشبية طويلة تُحفظ فيها الحلويات الطازجة والفطائر اللذيذة وعلب الكرتون المزينة التي توضّب فيها طلبات الزبائن. مقهى سياسي بامتياز تشير الباحثة الدكتورة جليلة الزيني إلى الطابع السياسي لمقهى «فينوس» بخلاف بقية مقاهي الإسكندرية ذات الطبيعة الأوروبية، فموقعه الفريد في شارع النبي دانيال أسفل مقر حزب الوفد (بيت الأمة سابقاً) على مقربة من مقر جريدة «الأهرام» في الإسكندرية، كان سبباً مهماً لكي يكون ملتقى للساسة الوفديين السكندريين وضيوفهم من مختلف المدن المصرية، فتمتلئ جنباته بسجالاتهم السياسية وخلافاتهم الأيديولوجية وتوافقاتهم الوطنية. وتقول: «كان من رواده السياسيين مكرم عبيد باشا، وأبو الليبرالية المصرية أفلاطون الأدب العربي أحمد لطفي السيد، ومن رائدات حقوق النساء في مصر سهير القلماوي وكذلك فؤاد باشا سراج الدين». ويعكس تغير نشاط الموقع ذي الأهمية التاريخية حجم التحولات القيمية العاصفة للمدينة الكوزموبوليتانية وما يحدث فيها من صراعات الهوية وخلل البنية الاجتماعية وفق الزيني، صاحبة بحث «تحولات المدينة وفضاءاتها- قيم وأخلاقيات». أغلق «فينوس» أبوابه عقب ثورة 25 كانون الثاني (يناير)، وظل المبنى محتفظاً بشكله التراثي وطرازه الفريد، ليفاجأ مثقفو المدينة وروادها ببيع المكان في مزاد علني فاز به محمد جاد أحد مالكي سلسلة مطاعم «جاد» الشهيرة، مقابل مبلغ كبير وفق روايات أصحاب المتاجر المجاورة، متعهداً ألا يفقد المكان رونقه الجمالي ولا طرازه المعماري. وتذكّر تغيّرات المدينة بعبارة الأديب الفرنسي مارسيل بروست وهو أحد عشاق الإسكندرية: «عندما تندثر أشياء الماضي، عندما يموت الناس وتنكسر الأشياء وتتبعثر، تبقى رائحة الأشياء وطعمها فترة طويلة، كالروح حاملة صرح الذاكرة الجبار على حُبيبات من الرائحة تكاد لا ترى».