في انتقال اللبنانيين من دور المتفرج على ثورات العرب إلى صياغة ثورتهم الخاصة، شيء من انتقال السلطة في البلدان العربية، بعد عقود من حكم الرجل الواحد الأوحد. الأمر يتطلب عقوداً، ويمشي بوتيرة السلحفاة، فيما أرانب الفايسبوك تسابق إلى خط النهاية. والبحث في أداء اللبنانيين على موقع التواصل الاجتماعي الأبرز، يفضح عجزاً غير مسبوق في تأطير أي فكرة أو تصوّر واضح لبذرة ثورة ما. بل إن الانقسام الانشطاري الذي يصيب البلد، ينسحب على أحلام الثورة، التي تنشطر هي الأخرى وتتشظى لتصير ثورات كثيرة. ويبدو مستحيلاً ها هنا، حتى مجرد التفكير في جمع الثورات هذه لصياغة ثورة واحدة، إذ يبدو جمع اللبنانيين أسهل من جمع ثوراتهم، التي تتخذ أشكالاً وعناوين غير مفهومة، تبدو أحياناً ضرباً من الجنون ليس إلا. بيد أن الثورات عموماً تبدأ بأفكار مجنونة، لكن الجنون اللبناني يكون غالباً مجانياً، لا طائل منه، عاقل بالضرورة، فيما يبدو أن اللبنانيين خسروا كل شيء ما عدا عقولهم، وهذا يتواءم مع تعريف نيتشه للجنون على أنه فقدان الإنسان كل شيء ما عدا عقله. والعقل اللبناني، بهذا المعنى، يتحول إلى عقل لإدارة الأزمات، الناتجة عن خسارة كل شيء، لهذا يتسم هذا العقل اليتيم بالجنون العظيم، الذي لا ينتج شيئاً سوى الفراغ والأزمات. والعقل هذا، الذي يجاري العصر، ويواكب ثورة الإنترنت، يستعرض جنونه المذكور، في مواقع التواصل الاجتماعي، لتظهر المجموعات اللبنانية في هذه المواقع كأنها فسح النزهة والشمس والهواء في مستشفى المجانين، يخرج إليها الناس، ليتبادلوا جنونهم بشيء من اليأس الكوميدي الأسود، ولتخرج الأحلام كأنها هلوسات على شكل حِكَم، كتلك التي تخرج من أفواه المجانين. كل ما يقال اليوم على موقع الفايسبوك بشأن لبنان صحيح وجميل ويستحق القراءة والمتابعة، لكنّ نِسَب نجاحه وتحققه معدومة: صفر. لماذا؟ لأن الانقسام إذا كان عمودياً، كما في البحرين أو الجزائر أو اليمن، فهو بالكاد يستطيع إنتاج تحركات تشابه الثورات، فقس على بلد انقسامه انشطاري، كتحطم الزجاج، يصعب جمعه أو لصقه أو حتى صقله من جديد. التجمع الأبرز لبنانياً على الفايسبوك اليوم، هو ذلك الذي يدعو إلى ثماني عشرة ثورة، أي أن تبدأ كل طائفة بإزالة ديكتاتورها. بعضهم فكّر بالبدء بنبيه بري، رئيس المجلس النيابي، كونه الوحيد في منصب رئاسي لم يتغير من موقعه منذ أكثر من عشرين عاماً. ولكن كيف تطيح بالرئيس بري إذا كانت الطائفة الشيعية غير موافقة؟ كيف تعزل وليد جنبلاط إذا كان ضرورة بالنسبة إلى الدروز؟ كيف تتخلص من ميشال عون وصهره وسلالته، اذا كان نصف المسيحيين على الأقل وراءه؟ كيف تمس بالسيد حسن نصرالله وهو من قامت القيامة ولم تقعد اعتراضاً على تقليده في برنامج هزلي؟ كيف تقنع القوات اللبنانية بانتخاب رئيس هيئة تنفيذية غير سمير جعجع؟ واذا عزلت مجلس قيادة الثورة في الحزب الشيوعي اللبناني، من يبقى في الحزب؟ ومن أين تأتي للسنة ببديل عن سعد الحريري؟ ثم هناك مشكلة الأقليات. ولنفترض أن ثورة من الثماني عشرة نجحت في اقصاء الزعيم، من يضمن أن زعيماً طائفياً آخر لن يحل مكانه؟ هذا أنموذج لأفكار التغيير الجنونية، التي لا تجد أمامها إلا جداراً صلداً صالحاً للنطح ليس إلا. أنموذج آخر هو القائل باستعادة ثورة 14 آذار، وإحيائها وهي رميم. وفي هذا القول جنون عيادي، يصلح لإجراء التجارب عليه في كليات علم النفس. وهنا ببساطة يمكن الاستعانة بالمثل الشعبي القائل «مين جرَّب المجرَّب كان عقلو مخرَّب». فقد اختبرنا قيادات 14 آذار حتى ما عاد في اليد حيلة، خصوصاً بعدما سلب هؤلاء أحلام الثورة وأعادوها إلى حظيرة الطوائف لتسرح مع كوابيس وذعر الطوائف من بعضها، وليضيع مع هذه الخيبة كل ملمح من ملامح الاستقلاليين اللبنانيين الكيانيين، الذين تواروا عن النظر أو تطايروا في عاصفة الرمال التي أعمت كل بصر وبصيرة. لا شك في أن القضية الكيانية لا تزال موجودة، على صفحات الفايسبوك، وفي مكان ما ايضاً من حياتنا الواقعية، لكن كيف نصنع إطاراً للمؤمنين بهذه القضية خارج الحقل المغناطيسي لهذه الطبقة السياسية، التي تتقاسم كل غنائم البلد، بما في ذلك استقلالييه؟ هل تكفي مجموعات على الفايسبوك لصناعة ثورة استقلالية كيانية؟ الموت في التماثل، يقول مهدي عامل، فكيف إذاً نصنع التمايز القادر على بعث الحياة، بدل التماثل التطابقي الكامل المرعب، كالتقاء الصورة بمرآتها، فلا نعود نميّز الأصل عن الانعكاس؟ لا حلّ أمامنا إلا أن نكسر المرآة. والمضحك، أننا قد نعثر على صورنا كلنا في حطام المرآة، ولن نجد الأصل، الذي لا وجود له في الأصل إلا في المرآة. أليس هذا الجنون بعينه؟ * صحافي لبناني