إذا كان شعب تونس هو الذي فتح النوافذ أمام رياح الحرية في العالم العربي، فإن شعب مصر هو الذي يمكن أن يفتح الأبواب أمام رياح التغيير والتجديد في هذه المنطقة من العالم. فمصر الشعب والتاريخ ليست أية دولة في العالم العربي، وإنما هي بمثابة الدولة المركزية فيه، مع دورها السياسي، وثقلها الثقافي والفني، وحجمها السكاني، وموقعها الجغرافي، وقوتها العسكرية، ومكانتها المتميّزة في الذاكرة العربية. وعلى رغم أن الشعارات التي كانت مرفوعة في التظاهرات، التي اجتاحت مصر من أقصاها إلى أقصاها، تركّزت على التغيير السياسي الداخلي، ولم تتطرق الى أية أجندة سياسية خارجية (أو قومية)، على ما جرت العادة، فإن التغيير في مصر لا بد ستكون له تداعيات كبيرة على مجمل المنطقة العربية، كما على شكل تفاعلات القوى الدولية والإقليمية فيها. ومع ملاحظة أن الوضع الجديد في مصر سيقف في مواجهة تركة ثقيلة من الأعباء أو الأزمات الداخلية، إلا أنه يمكن التوقّّّع أن التغيير السياسي الحاصل سيشمل أيضاً السياسة الخارجية، إلى الدرجة التي تمكّن مصر من استعادة مكانتها في النظام العربي، وتعزيز وضعها إزاء القوى الإقليمية الأخرى، التي حاولت احتلال الفراغ الذي شكله غيابها، والذي لم تستطع أية دولة عربية غيرها تغطيته. ويستنتج من ذلك أن مصر المتعافية، والمتصالحة مع ذاتها، ومع تاريخها ومكانتها، يمكن أن تفيد أيضاً في استعادة النظام العربي لروحه وفاعليته، إن في ما يتعلق بعلاقاته البينية، أو بالنسبة الى تعزيز قدرته على مواجهة التحديات المحدقة به، ومن ضمنها التحدي الذي يفرضه وجود إسرائيل في هذه المنطقة، وتحدي كبح جماح القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على الشرق الأوسط. في هذا الإطار، فمما لا شك فيه أن إسرائيل ستتأثّر مباشرة بالتغيير في مصر، ذلك أن مصر الجديدة ستُقلع عن سياسة الاستجداء، وعن سياسة الارتهان للمتطلبات الإسرائيلية أو الأميركية، وستتخذ سياسة حازمة للجم عنجهية إسرائيل وتعنتها، كما سيعني ذلك استعادة النظام العربي عافيته في مواجهة السياسات الإسرائيلية المنفلتة من عقالها، إزاء الفلسطينيين وغيرهم، ولو من دون الذهاب إلى انتهاج سياسات حربية. ومعلوم أن إسرائيل كانت خاضت حروباً عدة ضد الفلسطينيين واللبنانيين، وشنت اعتداءات على سورية، مستغلة خروج مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي. ومن ناحية ثانية، فإن التغيير السياسي في مصر سيضع إسرائيل في وضع إقليمي حرج جداً، فبدلاً من المحيط الإقليمي الصديق، ستجد إسرائيل نفسها وسط محيط معاد، فهي بعد خسارتها لإيران الشاه، وبعد أن خسرت تركيا، ها هي تخسر مصر أيضاً. ليس ذلك فقط، ذلك أن إسرائيل ستبدو كمن ضيّع فرصة التسوية، طوال قرابة عقدين من الزمن، بسبب استهتارها بأحوال العرب، وتعمدها امتهان حكوماتهم، ما يعني أن هذه العملية، بعد التغيير في مصر، لن تكون كما قبلها. وقد بات واضحاً للقاصي والداني أن إسرائيل، بسياساتها المتغطرسة والمتعنتة، هي التي قوضت مسارات عملية التسوية، أكثر مما قوضها العرب، وأكثر بكثير مما قوضتها القوى المعارضة. وبديهي، فإن ذلك سيضع إسرائيل أمام لحظة الحقيقة، أو أمام احد خيارين، فإما الرضوخ لمتطلبات عملية التسوية، وفق مواصفات المرجعيات الدولية (هذه المرة)، وإما انتهاء عملية التسوية، جملة وتفصيلاً، وتحمل ما ينجم عن ذلك على وجود إسرائيل في هذه المنطقة. أما بالنسبة الى السلطة الفلسطينية، فإنها ستجد نفسها، بعد التغيير المصري، في وضع صعب أيضاً، كونها ستخسر برحيل نظام مبارك، النظام الذي شكّل حاضنة سياسية لها في العالم العربي، ليس هذا فحسب، بل إن نظام مبارك بالتحديد هو النظام الذي كان يغطي عملية التسوية، التي انخرطت فيها القيادة الرسمية الفلسطينية، على رغم كل ما شابها من عثرات وإجحافات وامتهانات. وكلنا نعلم أن نظام مبارك كانت له مداخلات كبيرة حتى في الشأن الداخلي الفلسطيني، وفي تقرير العلاقات بين القوى الفلسطينية، وعلى الأقل فإن ملف المصالحة سيشهد تطورات جديدة، بعدما باتت «الورقة المصرية» في ذمة التاريخ. المشكلة هنا أن رد فعل القيادة الرسمية الفلسطينية على التغيير المصري كان مهيناً، ولم ينبثق من رؤية سياسية إستراتيجية مستقبلية، إذ إن هذه القيادة تصرفت بوصفها نظاماً من الانظمة، ولم تتصرف من منظور كونها قيادة حركة تحرر وطني، إذ حرصت على عدم اتخاذ موقف مساند لثورة الشعب المصري، وهي حتى منعت أية تظاهرات شعبية في هذا المجال (وهذا ينطبق على سلطة «حماس» في غزة)، إلا بعد سقوط نظام مبارك. أما الاستنتاجات التي استخلصتها هذه القيادة من التغيير في مصر فجاءت مزاجية ومتسرعة ومربكة، حيث ذهبت نحو تقرير موعد للانتخابات التشريعية والرئاسية وللمجلس الوطني، في أيلول (سبتمبر) المقبل. ومع التشديد على أهمية هذه الانتخابات، إلا أن التقرير في شأنها لم يكن حكيماً، ليس بسبب الانقسام فقط، وإنما بسبب تدهور أحوال الحركة الوطنية الفلسطينية، وغياب الإجماع في شأن ماهية المشروع الوطني الفلسطيني المطلوب. عدا عن ذلك، فكيف ستجري هذه السلطة الانتخابات في ظل الانقسام؟ وما هي إمكانات انتخابات مجلس وطني في دول اللجوء (الأردن ولبنان وسورية)؟ أم أن الأمر سيقتصر على إجراء انتخابات في الضفة؟ ويستنتج من ذلك أن القيادة الفلسطينية، بعد التغيير في مصر، باتت في مفترق طرق، فإما أن تواصل طريقة عملها كما في السابق، بالارتهان لعملية التسوية، أو أنها ستعمل على إدخال تغييرات في أوضاعها الداخلية وفي طريقة عملها، وفي شأن خياراتها السياسية، أو أن هذه القيادة ستجد نفسها مضطرة إلى ترك الميدان، في شكل أو في آخر. على الصعيد العربي، أيضاً، يمكن الاستنتاج أن التغيير في مصر يمكن أن يفتح الأبواب مشرعة أمام استعادة مصر علاقاتها الطبيعية مع سورية، بما يفيد باستعادة محور مصر سورية السعودية، وبتفعيل النظام العربي، وتعزيز مكانته إزاء تفاعلات القوى الإقليمية والدولية في هذه المنطقة. ويتبع ذلك أن النظام العربي سيكون، في هذه الحال، أكثر قدرة على تحجيم طموحات القوى الأخرى، التي حاولت استغلال مرحلة الضعف والتفكك في النظام العربي. وهذا يعني أن إيران ستجد مكانتها في وضع مختلف بعد استعادة مصر عافيتها، وبعد تعزيز النظام العربي لأوضاعه، ما يعني تحجيم النفوذ الإيراني، وربما أن هذا الأمر يخدم تصويب علاقات إيران العربية، وترشيد دورها في المنطقة. أما تركيا، التي كانت التمست دورها الإقليمي من علاقاتها الاقتصادية، ومن فاعليتها السياسية في مجال القضية الفلسطينية، فربما تكون هي الرابح الإقليمي الأكبر من التغيير في مصر، ما قد يفتح الباب على فاعلية إقليمية تركية عربية في وجه القوى الأخرى، لا سيما أن مصر الجديدة لن تنتهج السياسة ذاتها التي تنتهجها إيران، وربما أنها تكون اقرب الى السياسة الخارجية التي تنتهجها تركيا، مع ملاحظة أن تركيا هي دولة جوار إقليمي، في حين أن مصر هي في قلب الدائرة العربية. في المحصلة، فإن هذا التحليل الذي يستبعد استمرار مصر على السياسات ذاتها التي كان ينتهجها نظام مبارك، فإنه لا يتوقّع أيضاً عودة مصر، على صعيد السياسة الخارجية، إلى الخيارات القومية الناصرية، فمثلما أن الأوضاع في مصر وفي العالم العربي لا تسمح بالعودة الى هذه الخيارات، فإن كرامة شعب مصر، وتداعيات هذه الثورة عربياً، لا تسمح بالاستمرار في السياسات الخارجية التي انتهجتها مصر في عهد مبارك. * كاتب فلسطيني