الحديقة هي جزء من ثقافة فرنسا وتراثها، تعيش وتنمو مع نمو أشجارها ونباتاتها ومع الذين لا ينفكون عن تحديثها مع الحفاظ على التصور الأول الذي رسم خطوطها الأولى وهويتها. في موازاة الحدائق التاريخية التي تميزت بها فرنسا، من حديقة فرساي الساحرة إلى الحدائق الباريسية في القرن التاسع عشر وغيرها، لا يزال العمل قائماً على إنشاء حدائق جديدة هنا وهناك على امتداد فرنسا. في هذا السياق، يُحتفل هذا العام بمرور ثلاثين عاماً على تشييد حدائق دو فالوار Jardins de Valloires التي صمّمها جيل كليمان وتشكل امتدادا طبيعيا لدير تاريخي أُنجز بناؤه عام 1137. تقع هذه الحديقة في منطقة بي دوسوم Baie de Somme في إقليم بيكاردي، وهي معروفة بجمالها الطبيعي الذي تحدث عنه كتاب وفنانون كفيكتور هوغو وجول فيرن... وليست مصادفة أن تسمى هذه الحديقة «حديقة الحدائق» على غرار نشيد الأناشيد، وذلك لما تحويه من مجموعات نباتية نادرة تشكل متحفاً حياً من النباتات والأزهار والأشجار. وتحتضن هذه الحديقة الكونية أكثر من خمسة آلاف صنف من الزهر والنبات الأخضر الآتي من العالم أجمع. وهي بهذا المعنى حديقة جامعة ومرآة مصغرة لحدائق العالم شرقاً وغرباً. وهي إضافة إلى ذلك وبفضل الرؤية التي حكمت جمعها وتصميمها تسمح بالتعرف إلى الثراء الكبير ليس فقط في تنوع الأزهار بل أيضاً في العلاقة بينها وفي تعايشها بتواطؤ عميق يحيي العالم النباتي ولا يزال مجهولاً بأبعاده المختلفة حتى يومنا. من هنا جدة هذا المشروع وندرته. وإذا كان ثمة تركيز عليه اليوم في فرنسا من خلال الاحتفاء بالذكرى الثلاثين لإنشاء هذه الحديقة، فذلك لجعلها نموذجاً ليس فقط في فرنسا بل في العالم أجمع. وما يضفي سحراً على الحديقة هو موقعها الأثري الذي يعود إلى القرن الثاني عشر واستيحاؤها من عالم الحدائق بدءاً من حدائق القرون الوسطى. ويكفي تتبع مسار الحديقة وأسماء ممراتها وفسحاتها لإدراك المعنى الذي تنطوي عليه هذه الأسماء. ومنها ممر أشجار الكرز، جبل الفوجي الذي يعكس التأثر بالحديقة اليابانية. وهناك أيضاً ممر الحواس الخمس وممر العطور الموازيان للغابة المجاورة. أخيراً فسحة الجُزر المؤلفة من مجموعة فسحات احتوت على أصناف محددة من النبات. وفي تصور هذه الحديقة تتجاور الشاعرية والعلوم والابداعات الإنسانية والطبيعية. ليست حديقة فالوار الإنجاز الوحيد الذي اشتهر به جيل كليمان، فهو صاحب مساهمات معروفة كما في حديقة «متحف كي برانلي» الذي شيده الرئيس جاك شيراك قبل نحو عشر سنوات و«حديقة أندريه سيتروين» التي افتتحت عام 1992، وتُعدّان من نماذج الحدائق الحديثة في باريس. جيل كليمان الذي درس هندسة البساتين وعلم البيئة والفلسفة هو أيضاً كاتب صدرت له مؤلفات في هذا المجال، وله أطروحاته التي تأخذ في الاعتبار ما يحصل من تدمير للبيئة ولعناصر الطبيعة في العالم كله. وأمام التحديات الكبيرة التي يعيشها كوكبنا بسبب استنفاد موارده الطبيعية وتشويه معالمه، يرى كليمان أنّ مهمة المسؤولين عن البساتين والحدائق لم تعد كما عهدناها، إذ تقع عليهم مسؤوليات عديدة، لأنهم لا يغفلون عن جميع الكائنات التي تتقاسم الأرض، نباتاً وحيوانات، والتي هي أيضاً مهدّدة حين يكون الإنسان مهدداً في وجوده.