لكل حادث أو إشكال أمني روايتان، واحدة موالية وأخرى معارِضة. للناخب عين على دائرته وعين على الدوائر الأخرى. "أم الأزمات" عجقة السير. الزمور ممنوع. كثافة الاتصالات ستعطل لغة التواصل. الورقة البيضاء صار لها "صوت". بيروت - القصة بدأت ب"كوني جميلة وصوّتي" ولم تنته ب"السما زرقا"... بين الشعارين "حفلات زجل" على اللوحات الإعلانية أبطالها مرشحون للانتخابات النيابية اللبنانية استخدموا كل "ذخيرتهم" التحريضية والتعبوية بكافة أصنافها: السياسية والطائفية والمذهبية... الشعارات "من فوق"، و"من تحت" مهرجانات انتخابية جوّالة في المناطق شكّلت قوة دعم "لوجستي" للخطاب السياسي المقرّر سلفاً، والذي دخلت إليه في بعض الأحيان مفردات "طارئة" من أطراف الصراع، فرضتها الحاجة الى الرد على "الهجوم المباغت"... ب "هجوم مضاد". واكتمل الاستنفار الانتخابي بمشاهد الإشكالات الأمنية المتنقلة، التي أوقعت جرحى في بعض الأقضية "الحسّاسة" انتخابياً. ودائماً هناك روايتان، واحدة بنسخة موالية، وأخرى بنسخة معارِضة. وحده الناخب صاحب الكلمة الفصل في إصدار "الحكم" انطلاقاً من خلفيته السياسية، وليس أي شيء أخر. بركان يلامس حافة الانفجار فرض على وزارة الداخلية في لبنان، اتخاذ إجراءات احترازية غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات النيابية منذ الاستقلال، خصوصاً أن الانتخابات ستحصل في يوم واحد في السابع من حزيران في 26 دائرة "دفعة واحدة"، بحسب المادة 43 من قانون الانتخاب، وليس على مراحل كما في الانتخابات السابقة. هذا المعطى "التقني" دفع اللبنانيين أيضاً الى رفع مستوى "جهوزيتهم" الانتخابية، فكل مواطن لبناني سيقترع في القضاء الذي ينتمي إليه، ستكون عينه على الدوائر الأخرى لمواكبة صدور النتائج، وإجراء حساب "منزلي" دقيق بالورقة والقلم لمعرفة لمن الأكثرية، لفريق 14 آذار الموالي أم لفريق 8 آذار المعارض الساعي إلى الفوز بهذه الأكثرية. ووسط معلومات، لم ينفها وزير الاتصالات اللبناني جبران باسيل، عن ضغط هائل على الشبكات الخليوية يوم الانتخاب، قد يعطّل "لغة" التواصل بين الماكينات الانتخابية وبين المناصرين، يحاول اللبنانيون ايجاد بدائل تعوّضهم هذا "الحرمان"، عبر الاتكال على خطوط الشبكة الثابتة والانترنت وارسال الرسائل القصيرة... ويترقب هؤلاء مواجهة "أم الأزمات" وهي عجقة السير الخانقة، في وقت يقدّر مركز الإحصاء والتوثيق مشاركة أكثر من مليون و781 الف مقترع (من أصل 3،257،230 ناخب)، بمن فيهم بلوك المغتربين، في العملية الانتخابية. لكن التوتر وشدّ الأعصاب لن يقتصر فقط على يوم الانتخاب، لأن "عقاباً" أكبر سينتظر فئة كبيرة من اللبنانيين تعتبر نفسها من "مدمني السهر" في نهاية الأسبوع، بعدما أصدر وزير الداخلية زياد بارود تعميماً يطلب فيه من جميع المحافظين اتخاذ الإجراءات اللازمة لإبلاغ أصحاب كافة الملاهي ضرورة اقفالها من الساعة التاسعة من مساء السبت ولغاية الساعة السادسة من مساء يوم الاثنين، وإقفال المقاهي والمطاعم الساعة الثانية عشر ليلاً قبل سبع ساعات من فتح صناديق الاقتراع". وتخشى وزارة الداخلية، كما القوى الأمنية اللبنانية، من حدوث أي إشكالات أو تلاسن أو اعتداءات متبادلة بين مناصري أطراف الصراع بسبب الشحن السياسي الذي بلغ ذروته في الآونة الأخيرة، واستدعى انتشاراً أمنياً كثيفاً في المناطق اللبنانية كافة، وتنفيذ خطة نوعية غير مسبوقة من قبل عناصر الشرطة والجيش اللبناني، تم وضع بنودها المحورية بالتعاون مع ضباط فرنسيين. ووجد مناصرو التيارات والأحزاب السياسية أنفسهم محاصرين "بترتيبات" لم يحسبوا لها حساباً، إذ أن وزارة الداخلية أصدرت تعميماً أيضاً بإقفال كافة المراكز الحزبية ومكاتب الماكينات الانتخابية في محيط أقلام الاقتراع صباح السبت، أي قبل يوم من بدء العملية الانتخابية، إضافة إلى منع المواكب السيّارة ومكبرات الصوت بالقرب من هذه المراكز... وهو الأمر الذي خلق نفوراً لدى مناصرين اعتبروا أنهم حرموا من "عدّة الشغل" التي من شأنها "شدّ عصب" الناخبين، ودفع المترددين تحديداً، الذين يعدّون بالآلاف، إلى حسم خياراتهم السياسية قبل إقفال صندوق الاقتراع الأبيض الشفاف الذي يستخدم لأول مرة في تاريخ الانتخابات. ومن عجائب وغرائب الانتخابات النيابية اللبنانية هذا العام، هو أن المادة 55 من قانون الانتخاب فرضت على كل مرشح فتح حساب في مصرف عامل في لبنان غير خاضع للسرية المصرفية يسمى "حساب الحملة الانتخابية"، على أن يتم استلام المساهمات ودفع جميع النفقات الانتخابية عن طريق هذا الحساب حصراً، وتخضع النفقات التي يعقدها أو يدفعها المرشح من ماله الخاص إلى سقف الإنفاق والمحدد بقسم ثابت مقطوع قدره 150 مليون ليرة لبنانية، وقسم متحرك مرتبط بعدد الناخبين في الدائرة، حدّده مرسوم صادر عن مجلس الوزراء ب 3 آلاف ليرة عن كل ناخب. هذا في القانون، أما على الأرض، فإن الخبراء في عمل الماكينات الانتخابية لقوى الصراع الأساسية يؤكدون أن "مصاريف" الحملات الانتخابية تخطّت السقف المحدد "بأشواط"، حيث تمكنت هذه القوى من "التحايل الذكي" على بنود قانون الانتخاب، ما منحها حرية التحرك في جذب الناخبين إلى صفها. ويجزم الخبراء أن انتخابات 2009 قد تكون الأكثر كلفة في تاريخ الانتخابات النيابية اللبنانية، ويعطون مثلاً بسيطاً سهل الاستنتاج: سيدفع أحد المرشحين البارزين في جبل لبنان يوم الانتخاب في 7 حزيران مبلغ 50 مليون ليرة لبنانية ثمن سندويشات لأنصاره في كافة المراكز الانتخابية التابعة له. وإذا تم حساب المصاريف في مكاتب الماكينات الانتخابية والتنقلات والخدمات والمساهمات والإعلانات... على مدى نحو شهرين قبل يوم الاستحقاق، فالمرشح المذكور يكون قد "خرق" سقف الإنفاق الانتخابي، بملايينه الخاضعة للسرية المصرفية. مفارقة أخرى في انتخابات حتى الزمور هو مصدر إشكال فيها: وزير الإعلام اللبناني يعترف على إحدى شاشات التلفزة، أنه يشهد على عشرات المخالفات يومياً لقانون الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب. الوزارة في هذه الحالة لا حول لها ولا قوة، أما هيئة الإشراف على الانتخابات فقد ضاقت جواريرها بملفات المخالفات، لكنها لم تتعب من توجيه كافة إشارات التحذير والتنبيه والتهديد "الناعم". وبدا أن هناك مساحات مضيئة في استحقاق تم إغراقه بعتمة الشعارات "التناحرية". ففي الانتخابات السابقة كانت الأوراق البيض ترمى في سلة المهمات دون أن تحتسب أو تسجّل في محاضر لجان القيد، لكن في انتخابات 2009 سيحظى الرافضون لسياسة "الالتحاق بالمحاور"، والمعترضون على الأمر الواقع متسلحين بورقتهم البيضاء، "شرف" تسجيل عددهم في لجان القيد، وبالتالي الكشف رسمياً عن "الحالة السياسية" التي يمثّلها هؤلاء. وهذا ما قاد وزارة الداخلية إلى تخصيص إعلان موجّه إلى الفئة المترددة لدفعها إلى التصويت، حتى بورقة بيضاء بعدما أصبح لها "صوت" في الانتخابات.