ترمي ثورتا تونس ومصر والتحركات الاحتجاجية في البلدان العربية الأخرى، أسئلة وإشكاليات تفرض نفسها على العرب الذين بوغتوا باتساع حجم التغيرات فيما عدّتهم المعرفية أكلها الصدأ. وتفسير أسباب «الربيع العربي» – على ما راحت تسمي وسائل إعلام غربية حركات التغيير العربية - بالوسائل التي جرى بواسطتها شرح تطورات الأعوام السابقة، لم يعد كافياً أو محيطاً بما يشهده العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. هنا ملاحظات سريعة على عبارات ومصطلحات ترددت في الأسابيع القليلة الماضية. الإسلام والعلمانية: لم يؤد الإسلام الحركي أو السياسي دوراً يذكر في ثورة تونس التي تصدرها شباب المناطق البعيدة عن المراكز المدنية والنساء. قيل أولا إن السبب هو تجذر العلمانية في تونس منذ عهد الحبيب بورقيبة. خفوت صوت الإسلاميين الأقوى والأحسن تنظيماً في مصر، شكّل المفاجأة الثانية حيث أصروا منذ اليوم الأول للثورة على حكم الرئيس حسني مبارك على عدم وقوفهم وراء التحرك. ربما انطوى الموقف هذا على محاولة لضمان خط عودة وعدم إعطاء النظام فرصة لتدمير «الإخوان» في حال قمع الثورة. لكن، عموماً، كان الإسلاميون في موقع رد الفعل على تقدم الشارع الذي سبقهم بأشواط. الثورتان، بهذا المعنى، رسمتا حدود نفوذ التيار الإسلامي بتنويعاته المختلفة، من الجهادية والسلفية الى الوسطية، وعدم التطابق بين محركاته وما تعتبره الكتل الكبرى من الشعبين أسباباً للثورة. العلمانية أيضاً لم تُطرح كشعار صريح. الأصح أنه جرى تجاهل الموضوع الديني كله في برامج عمل الثورتين وشعاراتهما. الطائفية والجهوية: لم تشكل الطائفية همّاً في تونس في حين أن النزعة الجهوية، من خلاف بين أهالي السواحل الشمالية والعمق الريفي والصحراوي، لم يبرز إلى الواجهة. أما في مصر فالعلاقات القبطية – المسلمة التي كادت تنهار قبل ثلاثة أسابيع من انطلاق «ثورة 25 يناير» بفعل جريمة تفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية ليلة رأس السنة، بدا أنها دخلت مرحلة جديدة من المراجعة. فالتراكمات التي شهدتها الأعوام السابقة لم تختف، لكن يمكن الاعتقاد أن التغيير السياسي الكبير في البلاد قادر على تسليط ضوء جديد على العلاقات الطائفية. لا يرمي هذا الكلام إلى إنكار واقع الانقسام الطائفي في البلدان العربية، لكنه يسعى إلى التقليل من قيمة مقاربات «ماهوية» أنزلت بالعرب، في مختلف بلدانهم خصوصاً في المشرق، أحكاماً قاطعة عن استحالة تجاوزهم هوياتهم ونزاعاتهم الأزلية. الانقسامات العمودية تعقد ولا تلغي ضرورة التغيير. ربما جذبت رؤية الحشود المليونية في ميادين مصر المشاهدين إلى تجاهل العلاقة بين البنية الاجتماعية وشكل الحكم السياسي. أي إلى الاعتقاد أن الديموقراطية على الطريقة الغربية باتت في راحة اليد. الواقع غير ذلك. فالتركيبات الاجتماعية العربية التي شهدت قفزات كبيرة في العقود الماضية، لم تشهد ترسخ البرجوازية الوطنية ولا دوراً فاعلاً للطبقات المنتجة. الشباب الحامل الشهادات الجامعية، العاطل من العمل أو المضطر للقبول بوظائف أقل من مستوى شهاداته والذي ألقيت على عاتقه مسؤولية الثورتين، سيكون موضع اختبار في الأشهر والأعوام القليلة المقبلة في شأن قدرته على تلبية المطالب الجذرية للفئات المهمشة والأكثر حاجة الى ثمار الديموقراطية والتوزيع العادل للثروة ومكافحة الفساد ورفع الظلم التاريخي اللاحق بها. ويتعين القول، من دون مواربة، إن الجيش (في الحالة المصرية خصوصاً) يشكل بديلاً جاهزاً للانقضاض على السلطة والانقلاب على الثورة. وكل المدائح التي كيلت للمؤسسة العسكرية المصرية لناحية حفظ دماء المصريين، قد تتحول مبررات في نظر الجيش ومن قد يركب موجته، للإطباق على الحكم للحيلولة دون الفوضى. «فايسبوك» و«تويتر»: بين حدين من المبالغة، الأول في تقدير أهمية هاتين الأداتين والثاني في تبخيسهما، تدور جدالات في شأن الدور الذي أدته شبكات التواصل الاجتماعي والاتصالات عبر الانترنت والهواتف الخلوية عموماً. يذهب المبالغون في الحديث عن أهمية تقنية الاتصالات إلى اعتبار ثورتي تونس ومصر واحتجاجات ليبيا والبحرين واليمن، نتيجة أكيدة للانقلاب الذي أدخلته الاتصالات الى مجتمعات عانت من الانغلاق ومن هيمنة السلطة الحاكمة على وسائل الإعلام بأنواعها. ويقول رافضو وجهة النظر هذه إن الفايسبوك والتويتر وغيرهما، لم يؤديا دوراً يزيد كثيراً عما كانت المناشير الورقية والصحف لتؤديه في ثورات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. الحل الوسط التلفيقي غير مرغوب هنا. فالقول إن وسائل الاتصال الجديدة أدت دوراً أوسع من المناشير والصحف والبيانات المطبوعة، لا يحمل معنى جديداً. بل الأقرب الى الواقع أن الوسائل الحديثة تحمل من الدلالات الرمزية والقيمية الشيء الكثير، وهي والإمكانات التي تتيحها على المستويات الاجتماعية والنفسية والثقافية والعلاقة التي تصوغها بين الفرد والجماعة، في حاجة إلى دراسات ما زالت تسير خطواتها الأولى. بيد أنه يمكن الجزم بأن الوسائل الحديثة للاتصالات، وبفضل قدرتها على حمل مضمون أكبر بكثير من الوسائل القديمة، ومرونتها الشديدة (حيث يمكنها أن تخدم السلطات والثوار بالقدر ذاته وأن تدور فيها حروب ومناورات ومكائد كثيرة) واتساع عدد مستخدميها، تختلف نوعاً عن كل ما جرى استخدامه سابقاً. لا يعني ذلك حصر حركة المعارضة فيها، فالحظر الذي فرضته السلطات المصرية على الانترنت والرسائل النصية ومنع عدد من القنوات الفضائية من العمل، لم يؤثر عمليا في جدول أعمال الثورة. بل الأصح أن إجراءات السلطات جاءت متأخرة جداً بعد انتهاء مرحلة التعبئة والانتقال الى الفعل الثوري الذي لم ينفع ضده وقف شبكات التواصل. أنظمة استبداد عربية أخرى تراقب هذه الناحية بفضول كبير حالياً.