كتاب مارك سايكس «القبائل الكردية في الامبراطورية العثمانية»، صدرت ترجمته العربية أخيراً عن دار الزمان للطباعة والنشر في دمشق، وهو مصدر مهم للباحثين في تاريخ وتطور حياة الشعب الكردي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وتزيد أهميته لأن المؤلف هو مارك سايكس (1879 – 1919) السياسي والضابط البريطاني الذي تولى مناصب عدة في الخارجية البريطانية، وحضر مؤتمر الصلح في باريس، وارتبط اسمه باتفاقية سايكس– بيكو الشهيرة سنة 1916. ويلقي سايكس الضوء في كتابه على جوانب هامة من تاريخ الشعب الكردي، خصوصاً لجهة انتشار العشائر والقبائل والأسر والرقعة الجغرافية التي شغلتها ولم تزل. وأظهر سايكس اهتماماً بالرحلات إلى الشرق وأراد أن يخلق لنفسه شهرة كتلك التي احرزها مواطنه جورج كرزون. وقادته رحلاته إلى مناطق مختلفة من كردستان العثمانية فزار اربيل وكركوك والسليمانية والموصل وجزيرة بوتان ومناطق بارزان وزيبار ووان وآرارات، ونشر تفاصيل رحلاته في ثلاثة كتب «عبر خمس ولايات تركية» (لندن 1900) و «دار الإسلام: سفرة عبر عشر من ولايات تركيا الآسيوية» (لندن 1904) و «الإرث الأخير للخليفة» (لندن 1915)، كما نشر بحثاً بعنوان «سفرات في شمال بين النهرين» (1907). أما هذا البحث فقد نشره كملحق لكتابه «الإرث الأخير للخليفة» لذلك لم يُعرف ككتاب مستقل. والمعروف أن سايكس كان من دعاة تعزيز النفوذ البريطاني في كردستان والمنطقة ومواجهة النفوذ الألماني المتنامي في الدولة العثمانية، وكان يرى أن في إمكان العشائر الكردية أن تشكّل خطاً دفاعياً ضد أي غزو روسي محتمل للدولة العثمانية. وهو اهتم بالإدارة العثمانية وجمع معلومات قيمة وغزيرة عن العشائر وأصولها وعددها وأسرها وعاداتها وتقاليدها وطقوسها ومعتقداتها وحتى الملابس والملامح والتفاصيل والفوارق فيما بينها. استفادت بريطانيا، بالتأكيد، من هذه المعلومات لدى دخولها أراضي الدول العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى. وللدلالة على أهمية كتابه يقول سايكس في مقدمته انه «حصيلة قطع مسافة 7500 ميل على ظهر حصان ومحادثات مع رجال الشرطة وسائقي البغال وملال وشيوخ قبائل ورعاة أغنام ومتعاملين بالخيل وسعاة بريد وأناس آخرين مؤهلين لإعطاء معلومات أصيلة». يقسم سايكس الأقاليم التي يسكنها الكرد إلى ست مناطق: المنطقة A- تحدّها بحيرة وان وسهل أرمينيا من الغرب ونهر دجلة وسهول العراق جنوباً. وينحدر منها 75 عشيرة. ويرد سايكس قبيلة كورد بابان الى خالد بن الوليد الذي هداهم إلى الإسلام وأبعدهم من الوثنية وعبادة النار. وأكثر الأسر البارزة في هذه القبيلة تتزاوج مع عرب بلاد ما بين النهرين. ولاحظ أن نساءها جميلات ولديهن مهارة الرجال الذين يحملون البنادق والخناجر. ويذكر أيضاً قبيلة الجاف التي يظن ان صلاح الدين الأيوبي ينحدر منها وأبناؤها معروفون بالوفاء. وهناك قبائل كردية إيزيدية مثل شيخان واوهه ويري. أما المنطقة B فتضم أربع طوائف، وتقع هذه المنطقة قرب ممر بدليس القريب من جبال طوروس. وفيها قبيلة البوسكان وتقليدها عبادة سيف منغرز في الأرض والقمر والنجوم، وكانت تحت حكم ملك مسيحي يدعى تافيت. ويتوقف سايكس عند قبيلة بوبانلي التي تعيش وسط طبيعة صعبة تبعد فكرة تعرضها للغزو من أي جهة. ويذكر قبيلة درسيملي التي تؤمن بمذهب وحدة الوجود، وينقل عن رجل من هذه المنطقة قوله: «إني لا أعبد الله لأن الجزء لا يستطيع أن يعبد الكل»، ويضيف: «لكنهم مسلمون شيعة من حيث الشكل ويقسمون بالإمام علي». المنطقة C تقع في مقاطعة الجزيرة الشمالية وبعض قبائلها من المسلمين والأخرى مسيحية (المذهب اليعقوبي) وهم بنّاؤون وزارعو كروم، لكنهم عنيفون ومحبون للانتقام وغادرون. ويميز سايكس حتى في الملامح والأجسام وجدل الشعر والملابس والعادات والطقوس ولون اللباد والمعاطف والأحزمة. ويذكر قبيلة بكي ولديها أسطورة غريبة مفادها أنها من اصل إنكليزي وافرنجي وان اسمهم القديم كان سالاركان. وهناك قبيلة أبو طاهر ويقال إن اصلهم عربي ولكنهم يتحدثون الكرمانجية. وقبيلة مه حلمي، «ويقول أفرادها انهم كانوا مسيحيين قبل 350 سنة وأثناء مجاعة أصابت المنطقة طلبوا الإذن من البطريرك لأكل اللحم أثناء الصوم الكبير وقد رفض البطريرك ذلك فاصبحوا مسلمين. ونساؤهم لا يتحجبن وملابسهن حمراء. المنطقة D وتسكنها قبائل رحّل جاءت من ديار بكر، وهم كانوا أما مسيحيين أو أرمن أو عبدة نار. ونساؤهم يحلقن شعر فروة الرأس على طريقة شعر الراهب. المنطقة E، تقع بين نهري قزل ايرماق والفرات. رجالهم وسيمون. قصار القامة وفنانون في زخرفة بيوتهم. وتلفت نظر سايكس قبيلة كورشلي وهم فلاحون يميلون إلى التأمل الفلسفي على رغم أميتهم، وسلوكهم هادئ وهم يفتقرون إلى المرح والدعابة. المنطقة F، تقع خارج كردستان وتمثل مقصد هجرات قسرية للقبائل. ولما سأل سايكس عن معنى لباس العمامة لديهم أجابوا انهم من سلالة الانكشارية وقد منحهم السلطان سليم الفاتح الأراضي بعد فتوحاته. وفي الكتاب خرائط وواحدة منها رسمها مارك سايكس بخط يده. تصدر ترجمة الكتاب في زمن تشهد فيه المنطقة حروباً محلية وإقليمية وتدخلات دولية، وتتنامى الدعوات إلى دول جديدة وكيانات على أساس طائفي أو عرقي أو عشائري. كتاب «القبائل الكردية في القوى الامبراطورية العثمانية» صورة من قرب لطريقة وآلية عمل القوى الاستعمارية التي كانت ترسم وتدرس وتمهد الطريق وتعرف الأرض والواقع بدقة وعلى أساس أنثروبولوجي، قبل أن تنفذ سياساتها. * كاتب لبناني