أكد الفقيه الدكتور سعيد بن متعب القحطاني أن قضاةً في بلاده يقعون في أخطاء، سببها «جهل بعضهم بعادات الناس وأحوالهم وعباداتهم، لأنه وفد إلى بلد غير بلده الأصلي للقضاء، مع تفاوت عادات الناس من بلد لبلد». ولاحظ الأكاديمي السعودي أن هذا الخلل لم يتعرض له زملاؤه الباحثون في الجامعات السعودية، أو القضاة المؤتمنون على القضاء في الدماء والصغائر والكبائر من المشكلات، لذلك رأى كما قال «الإسهام في هذا الجانب من علم القضاء، لتعلقه بالجانب العملي للقضاء تعلقاً مباشراً، ولأني أراه مهماً في الوصول لحكم صحيح، يقبل به الخصوم، وتطمئن له النفوس، وسميت هذا البحث «بلدية القاضي وأثرها في تصرفاته القضائية»، إذ لم أقف على أية دراسة تفصيلية تتعلق بهذا الشرط، سوى كلمات قليلة لا تتجاوز السطر الواحد في بعض كتب المالكية». أهمية هذا الشرط في الجانب العملي، في اعتقاد القحطاني، دفعت إلى «اشترط نظام القضاء السعودي فيمن يولى القضاء أن يكون سعودي الجنسية، وهذا إذعان للحاجة بأن يكون القاضي من أهل البلد»، إلا أن الباحث لا يرى فيما يبدو أن هذا الشرط وحده كافياً، وإن اعتبره حجة مبدئية على صحة ما يطالب به، في وقت يشاع فيه أن القضاء في السعودية ظل طويلاً يختار أعضاءه من مناطق دون أخرى، بينما يرى الفقيه «أن يتنوع اختيار القضاة من نواح متفرقة من مختلف مناطق الدولة، وذلك لتفاوت عادات وأعراف الناس في هذا البلد من مكان لمكان، وقس على ذلك سائر بلدان العالم الإسلامي، على تفاوت فيما بينها في الاختلاف في تلك العادات». لكن الفقيه الذي تخصص في أصول الفقه من جامعة الملك خالد في أبها (جنوب السعودية) لم يدّع أن الصفة التي نصح بأخذها في الاعتبار مستقبلاً في تعيين القضاة، متفق عليها بين الفقهاء، أو أنها من أسس أهلية القاضي، وإنما دافع عنها كما أقر لأن «كل صفة تزيد منصب القضاء هيبة ووقاراً، وتزيد القاضي جلالة واحتراماً، فهي صفة كمال واستحباب، وكل عصر بحسبه، فيستجد من الصفات في عصر من العصور، ومكان من الأمكنة ما جرت عادة الناس بأن ينظروا إليها على أنها صفة كمال، فينبغي أن يكون في القاضي منها أوفر الحظ والنصيب، وكل صفة نقص ورذيلة في أي زمان ومكان ينبغي أن يكون القاضي أبعد الناس عنها، وأكثرهم احتياطاً منها، وذلك بالمحافظة على منصب القضاء من التدنيس، ليكون له أعظم الأثر في نفوس المتخاصمين، للامتثال لما يصدر عن القاضي من الأحكام». الخوف من التأثير على القاضي وساق الباحث الخلاف في المسألة، إذ على الرغم من شروط الكمال التي اشترطها بعض الفقهاء في القاضي، مثل أن يكون بلدياً، فإن ذلك الشرط لم يسلم من الخلاف، ولذا اختلف الفقهاء في اشتراطه على قولين، أولها انتصر لما ذهب إليه الباحث على أنه «شرط من شروط الكمال والاستحباب، لا شروط الصحة والوجوب لتولي القضاء، وممن اشتراط هذا الشرط: ابن الحاجب، وابن فرحون، وغيرهم، ووجه أصحاب هذا الشرط اشتراطهم له بأن القاضي إذا كان بلدياً فإنه يعرف الناس، وأحوال الشهود، وذلك ليعرف المقبولين والمسخوطين منهم، ويعرف حال المحق والمبطل، ونحو ذلك مما لا يعرفه غير البلدي». بينما يذهب أصحاب القول الثاني إلى رفض أن يكون القاضي بلدياً، أي من قريته أو منطقته، لأسباب لم تعجب الباحث فيما يبدو، ولذلك سماها شبهاً، وقال: «تمسك أصحاب هذا الرأي ببعض الشُبه، ومنها: أنه إذا كان بلدياً فقد يفرض لبعضهم دون بعض، لأنه لن يخلو من أعداء وأصدقاء، إضافة إلى أن الغالب وجود المنافسة بينه وبين أهل بلده، وذلك يورث تهمة بأنه قد يقضي بغير الحق، فينبغي سد ذريعة ذلك، حتى لا يتهم القاضي في أحكامه». لكن الباحث على رغم إيراده أن ابن رشد وابن عبدالسلام، قالا: «إن الولاة في زمانهما يرجحون غير البلدي على البلدي»، فإنه أصر على ترجيح صحة اشتراط كون القاضي بلدياً، مؤكداً أنه «شرط صحيح من شروط كمال منصب القضاء، لأنه يساعد على معرفة أعراف الناس وعباراتهم ومقتضيات ألفاظهم فيما يذهبون إليه، وفهم واقعهم، لتحقيق مناطات الأحكام وتنزيلها على الحوادث، كما أنه يساعد على معرفة الناس، بما فيهم الشهود وأحوالهم، حتى يكون الحكم عليهم والمبني على شهاداتهم، حكماً صحيحا»ً. وأضاف: «مما يؤيد اشتراط هذا الشرط أن بعض الفقهاء اشترطوا في القاضي أن يكون عالماً بلغات أهل ولايته، عارفاً بها، حتى يعرف دعاوى الخصوم، فإذا كان القاضي بلدياً، فإنه يعرف لغات البلد الذي يقضي فيه، ويسهل بذلك فهم كلام الخصوم، ويتيسر الوصول للحق الذي هو مقصد القضاء». أضعف الايمان القحطاني الذي يستند إلى معرفة بالواقع المعاش في البيئة السعودية، فيما يشبه التدرج أكد أنه «إذا لم يكن القاضي بلدياً، فلا ينبغي التساهل في اشتراط كونه يعرف أعراف البلد الذي يقضي فيه وعاداته، ولا شك أن القاضي الذي يكون من أبناء البلد أعرف بتلك الأمور في الغالب، إذ غيره قد يحتاج لجهد وزمان لمعرفة عادات أهل البلد وعباراتهم وغير ذلك مما له علاقة بالحكم الذي يصدره، خصوصاً إذا كان عاجلاً لا يحتمل التأخير للسؤال عن تلك العادات». وتترس الفقيه بتخصصه الأصولي، إذ نقل تصريح غير واحد بأهمية ملاحظة أعراف الناس وعاداتهم عند القضاء عليهم، وهو ما يتعذر غالباً على من ليس من أهل البلد، فمهما عرف وتوغّل تخفى عليه بعض خفاياهم. وبين من استدل القحطاني بأقوالهم في هذه الصدد - الإمام القرافي - الذي نص على أن «الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت، كالنقود في المعاملات، والعيوب في الأعراض وفي البياعات ونحو ذلك، فلو تغيرت العادة بها دون ما قبلها... وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه، بل قد يقع الخلاف في تحقيقه: هل وجد أم لا»؟ إلى أن قال: «وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِه على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأَجْرِه عليه، وأفته به دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين». وقال الصنهاجي: «ينبغي للقاضي أن يكون عارفاً بعوائد أهل البلد الذي ولي به، ليجري الناس على عوائدهم وأعرافهم، منزلة الشرط المدخول عليه صريحاً». وقيل للشيخ عبدالسلام التونسي: إن هؤلاء القوم امتنعوا من توليتك القضاء لأنك شديد في الحكم، قال لهم: «أنا أعرف عوائدهم وأمشيها». وبناء عليه يخلص الباحث إلى أنه «ينبغي على القاضي أن يكون خبيراً بشؤون القوم الذين يقضي بينهم، وأن يكون عارفاً بعوائدهم وأعرافهم، وفي هذا يحكى عن مالك قوله: «رحم الله شريحاً، تكلم ببلاده – يعني الكوفة – ولم يرد المدينة، فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم، وما حسبوا من أقوالهم، وهذه صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حوائط، وينبغي للمرء ألا يتكلم إلا فيما أحاط به خبراً». وقال ابن منظور: «إنه لا شك أن أحكام الأقضية والفتاوى تتبع عوائد الزمان وعرف أهلها». فظهر بذلك أنه لا بد من اعتبار العرف والعادة بالنسبة للقاضي، وقد حكى القرافي الإجماع على هذا الأصل، فقال: «وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه، بل قد يقع الخلاف في تحقيقه: هل وجد أم لا؟». ونظراً لأهمية العرف والعادة بالنسبة للقاضي والمفتي، اشترط بعض العلماء في الفقيه أن يعرف الناس، قال الإمام أحمد رحمه الله: «لا ينبغي للرجل أن يُنصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، وذكر منها «معرفة الناس».