تضييق الخناق على التنظيمات الإسلامية المسلحة، خصوصاً القاعدة، وتجفيف منابعها البشرية والمالية، جعل تنظيم القاعدة يبتكر طرقاً لم يكن يعمل بها في السابق، وإذا ما كان التنظيم تعايش مرحلياً مع نقص موارده المالية، لكنه وصل الى مأزق خطير بسبب الوعي المجتمعي بخطورة الانضمام إلى التنظيم وإحجام الشباب عن الالتحاق بالجهاد «بحثاً عن الحور العين»، وهذا بسبب كشف الإعلام لخبث نوايا التنظيم وزيادة الوعي لدى الأسر ومن ثم الأبناء، لهذا راح التنظيم يعمل على إنشاء مداجن للتفقيس محلياً. ومن أجل تحقيق الديمومة والاستمرار بدأ التنظيم أخيراً طرح عدد من المغريات للشبان مقابل استغلال قدرتهم على المغامرة ومن ثم تنفيذ أجندته الدموية من جهة، وتفريخ أجيال رضعتْ عقيدة التنظيم الإرهابي منذ الصغر من جهة أخرى، وذلك من خلال ترغيب أعضاء التنظيم بالتزاوج في ما بينهم، مستغلاً بذلك تنامي النزعة القبلية جراء الفقر والجهل اللذين ساهما في ازدهار نمط المصاهرات التقليدية. وأكد باحث في شؤون الجماعات المتشددة «أن غالبية أعضاء التنظيم لا تمتلك وثائق ثبوتية وهم موصومون بالإرهاب، ويتكيفون في مجتمع لإعادة إنتاج علاقات الزواج والقرابة فزوجة (القتيل) تنتقل غالباً إلى مقاتل آخر». وأوضحت مصادر مطلعة ل «الحياة» أن قيادات تنظيم «القاعدة» في أفغانستان واليمن والصومال والعراق لا تمانع فكرة زواج عناصره من الأسر التي تعيش معهم في مناطق الفتن والصراعات أو من شقيقات بعض أفراد الخلايا المنتمين الى المكان الذي يوجدون فيه، بحيث يسهل على التنظيم التخطيط لتجنيد شبان آخرين تربوا في مجتمع يؤمن بالفكر ذاته الذي يؤمن به قادة التنظيم لاستغلال حماسة الشباب واندفاعهم لتنفيذ عمليات انتحارية. وقالت المصادر أن «القاعدة» تستهدف الشبان الصغار الذين عاشوا في مناطق الصراعات، لينفذوا عمليات انتحارية، كون رب الأسرة لا يستمر فترة طويلة مع زوجته، بسبب أنه ربما يقتل أو يقبض عليه أو يسلم نفسه لدولته، وبالتالي يصعب عليه البحث عن أسرته وأبنائه في تلك المناطق. وأضاف: «الأبناء الذين ابتعد عنهم آباؤهم يتوجهون إلى التنظيم للعمل الإرهابي، فيما يبحث التنظيم عن زوج جديد لأرملة القتيل، كي تستمر في مرحلة التفريخ». وأشارت المصادر إلى أن الزواج يتم داخل مناطق الفتن من دون ملخص العقد الذي يوقع عليه الطرفان وكذلك إشهار الزواج، وبمبلغ زهيد لا يتجاوز 300 ريال. وكشفت المصادر أن أحد الموقوفين السعوديين في الرياض، رزق مولوداً خلال الشهرين الماضيين من زوجة أجنبية اقترن بها خلال انضمامه لتنظيم «القاعدة» خارج المملكة، وكان شقيقها زميله ضمن الخلية الإرهابية حيث عملا فيها معاً. وقالت المصادر أن والدة المطلوب الأمني رقم 34 في قائمة ال36 في الخارج ومرافق زعيم «الحزب الإسلامي» الأفغاني قلب الدين حكمتيار، السعودي سعد الشهري، طالبت الجهات الأمنية في المملكة باستعادة أبناء سعد من زوجة أجنبية في أفغانستان، وذلك بعد أن قتل جراء قصف أميركي على أحد المواقع التي يتجمع فيها عناصر تنظيم «القاعدة». فيما أعلن فرع التنظيم في اليمن في مجلة صدى الملاحم (الذراع الإعلامي للتنظيم) أن نائبهم السعودي سعد الشهري رزق مولودة خلال وجوده في مناطق الفتن والصراعات، وأن زوجته كانت تتنقل بين أسر يمنية ينتمي أبناؤها إلى عناصر التنظيم في اليمن. وتعرض «الحياة» نماذج من الذين تزوجوا في مناطق الفتن والصراعات أو أصبحت زوجاتهم داعمات لهم في أعمالهم الإرهابية حسب رواية أسر المطلوبين أو زملائهم، نشرتها مواقع تابعة للتنظيم، إذ ذكرت المواقع الإلكترونية التابعة لتنظيم «القاعدة» أن القائد الثاني للتنظيم في المملكة عبدالعزيز المقرن الذي قتل في مواجهات مع السلطات الأمنية في حزيران (يونيو) 2004، تزوج للمرة الثانية خلال انضمامه وترؤسه التنظيم من امرأة، وأنجب منها طفلة لم تتجاوز السادسة من عمرها، وذلك بعد أن انفصل عن زوجته الأولى بسبب غيابه المتكرر عنها، حيث كان يتنقل في عدد من مناطق الصراعات في أفريقيا. وتزوج المطلوب في قائمة ال26 علي المعبدي الحربي الذي فجر نفسه في عملية انتحارية في مجمع المحيا السكني في الرياض في كانون الأول (ديسمبر) 2003، من سيدة أفغانية، وذلك بعد أن التحق بصفوف التنظيم في أفغانستان خلال المواجهة مع الأميركيين، ومن ثم عاد إلى المملكة وحده، لتأسيس تنظيم جديد بقيادة السعودي يوسف العييري الذي قتل في مواجهة مع رجال الأمن في أيار (مايو) 2003. وذكر المطلوب رقم 19 في قائمة ال26 سلطان بجاد العتيبي الذي قتل في مواجهة مسلحة مع رجال الأمن في الرياض في كانون الأول 2004، في مقطع مرئي نشره موقع «صوت الجهاد»، أن زوجته أم حمزة كانت تناصر خلايا التنظيم، وتطالبه بإيواء الخلايا النائمة في منزلها، وتحضر الطعام وتشتري بمالها العشاء لهم، وتحرضه بين الحين والآخر على الهجرة معاً إلى أفغانستان في عهد طالبان، وقال: «كانت تبكي وتريد عملية استشهادية، لكنها توفيت»، من دون أن يحدد مكان أو سبب وفاتها. ولفت المطلوب الأمني رقم 9 في قائمة ال26 عيسى بن عوشن الذي قتل في 20 تموز (يوليو) 2004، أن زميله المطلوب (لم يدون أسمه في قوائم وزارة الداخلية) خالد السبيت تزوج من امرأة من العاصمة الشيشانية غروزني، كانت تقيم معه تارة، وتارة أخرى مع نساء المجاهدين العرب، واصطحبها مع أطفاله إلى المملكة بعد عودته مصاباً، إلا أنه قتل في مواجهة مع رجال الأمن في الرياض في نيسان (أبريل) 2004. أما أبو حمزة السوري الذي تسلل إلى العراق عبر الحدود البرية بعد سقوط بغداد في 2003، ثم قتل في عملية في بلدة المحمودية غرب بغداد وكانت زوجته العراقية حينها حاملاً، فأوصى زملاءه بتسمية المولود إن كان ذكراً (محمد)، وإن كانت أنثى يترك الخيار لوالدتها. وذكرت مواقع التنظيم في سردها سيرة زعيم خلية إسلامية مسلحة في الكويت اسمه عامر خليف العنزي، توفي بعد إصابته بنوبة قلبية خلال إيقافه في أحد السجون في الكويت في شباط (فبراير) 2005، أن زوجته (توفيت مصابة بمرض السرطان)، ساعدته عندما عاد إلى الكويت قادماً من العراق، حتى لا ينكشف أمره، وقامت بتحضير بعض الأجهزة التي يستخدمها في الأعمال الإرهابية، وأنها كانت تعد الطعام لعدد من العناصر التي يقوم زوجها بإيوائهم. فيما كان المطلوب رقم 20 في قائمة ال36 الموريتاني عبدالله ولد سيد برفقة إحدى زوجتيه حينما قبض عليه في ضاحية شعبية شمال العاصمة الموريتانية. وعرض عناصر «القاعدة» في أفغانستان على السعودي نواف الحافي العتيبي الزواج خلال انضمامه للتنظيم هناك، من الأسر القريبة من وجود التنظيم، إلا أنه عاد إلى المملكة وقتل في مواجهات الرس في نيسان 2005. وذكر قاعد المقاطي والد المطلوب الأمني رقم 79 في قائمة ال85، أن ابنه مقعد لم يستجب لنداءاته بتسليم نفسه، وأنه أبلغه بزواجه في أفغانستان، وأن لديه ثلاثة أطفال. من جهة أخرى، أكد الكاتب الصحافي عبدالله الكعيد ل «الحياة» أن هذا النوع من التزاوج أشبه ما يكون بالارتباط الحزبي بين رجل وامرأة، يفرضه من يسمون «أمراء التنظيم» رغبة في تقييد الطرفين أو أحدهما ب «القاعدة»، الى درجة يصعب معها التراجع عن الانضمام أو اعتناق الأفكار، وقال: «إن هذا التزاوج يكمن أيضاً في ربط الرجل بموقع العمليات المستهدفة، وكذلك انتهاز الغرائز واستغلال شهوة الشباب في ما يخدم أجندتهم الدموية». وأشار الباحث في شؤون الجماعات المتشددة حسن أبو هنية إلى أن الزواج من الوسائل التي يوليها تنظيم «القاعدة» اهتماماً خاصاً، فالمذهبية الدينية التي ينتمي لها أعضاء التنظيم تندرج في الإطار الواسع للسلفية، وتسعى جاهدة الى استنساخ ما كان عليه «السلف»، ولفت إلى أن فضاء المتخيل القاعدي لا يعتبر الزواج واجباً شرعياً فحسب بل مقصداً لا غنى عنه في سياق الإعداد للجهاد. وأضاف: «يتحقق مقصد الزواج من خلال الإنجاب لتحقيق الديمومة والاستمرار، ويتم ذلك في مناطق النزاع والصراع لتدعيم اللحمة بين أعضاء التنظيم وأنصاره، وفي سياق استحضار تاريخي لاستعادة نموذج الأنصار والمهاجرين في التجربة الإسلامية النبوية». وذكر أبو هنية أن تنظيم «القاعدة» والحركات المتماهية معه فكراً وممارسة، تطرح على مخاطبيها نموذجاً إرشادياً متخيلاً يحاكي ما كان عليه السلف، مع الفارق، وهو ينجح تارة ويخفق تارة أخرى في الاستقطاب والتجنيد، إلا أن الظروف الموضوعية وفي مقدمها شيوع النزعة القبلية والفقر والجهل، تساهم في شكل أساسي في ازدهار ونمو نمط المصاهرات التقليدية كما هي الحال في المناطق القبلية في اليمن التي ينشط فيها تنظيم «القاعدة» في جزيرة العرب، والمناطق القبلية في باكستان حيث ينشط التنظيم المركزي ل «القاعدة»، ومنطقة قبائل الطوارق في أمارة جنوب الصحراء التابعة لفرع «القاعدة» في المغرب الإسلامي، وغيرها من المناطق ذات التركيبة القبلية كالعراق والصومال، حيث اندمجت هذه التنظيمات في إطار المكون القبلي ودخلت في عمليات مصاهرة واسعة. وأكد الكعيد أن فكرة «المصاهرة» هي خطوة «بعيدة المدى»، يتم بواسطتها استغلال كل الوسائل، من أجل تفريخ أجيال ترضع عقيدة «القاعدة» منذ الصغر، فيصبح الشر ممتزجاً بجيناتهم، وهؤلاء لا تنفع معهم مناصحة أو إقناع. وقال أبو هنية: «أن المصاهرة عادة شائعة في إطار الحركات الهامشية تاريخياً، والقاعدة يشكل نموذجاً إرشادياً في سياق استثمار نمط المصاهرة، لأن الدولة المتخيلة للخلافة تعيد إنتاج أجيال جهادية بحسب التصور القاعدي». ولفت أبو هنية إلى أن أحد الإشكالات العميقة التي تواجه المجتمع، هي الحركات المتطرفة العنيفة التي تتماهى مع البنى القبلية المحافظة، واعتماد المقاربة العسكرية الأمنية في معالجة الظاهرة، وتؤدي غالباً إلى زيادة التعاطف وتنامي عمليات التجنيد، ففي سياق المجتمعات التقليدية ينظر إلى هؤلاء باعتبارهم مجاهدين وقتلاهم شهداء وهي منزلة في المجال التداولي الإسلامي لا تضاهيها مكانة على الإطلاق، والتشتت بين أبناء وزوجات «الجهاديين» الذين قتلوا بين بلدانهم الأصلية وبلدان المهجر يخلق مشكلات وتحديات. وأضاف: «هؤلاء غالباً لا يمتلكون وثائق ثبوتية وهم موصومون بالإرهاب، الأمر الذي يحدد توجهاتهم اضطراراً ويحملهم على التكيف والاندماج في مجتمعهم المصغر من خلال إعادة إنتاج علاقات الزواج والقرابة، فزوجة (القتيل) تنتقل غالباً إلى (مقاتل آخر)، والأبناء ينتقلون تبعاً لذلك، ولا بد من تفكيك العلاقة بين الحركات العنيفة وملذاتها التقليدية بإتباع نهج من التنمية المستدامة وتفعيل مفهوم المواطنة على أساس مبدأ الإخاء في إطار مقاربة شمولية تكاملية تزاوج بين القوتين الناعمة والصلبة». وذكر الكعيد أن سبب حاجة تنظيم «القاعدة» إلى مشاركة المرأة في مهام أخرى، هو حاجتهم إلى عناصر قتالية يصعب اكتشافها، والمرأة في مثل هذه المجتمعات التي تتحسس من التعامل مع النساء يمكن استغلالها في التحرك بسهولة أكثر من الرجل، ووصل الأمر بنائب التنظيم أيمن الظواهري أو غيره الى أن يتراجع عن أفكاره بعد أن رفض مشاركة المرأة في العمل المسلح في حوار له في 2008، وذلك تبعاً لمصلحة التنظيم الإرهابي. وقال أبو هنية: «أن مشاركة المرأة وانخراطها في العمل المسلح لدى الحركات الجهادية المعاصرة لا تخرج عن تاريخ مشاركتها في الحركات المسلحة ذات الطبيعة الأيديولوجية القومية واليسارية والدينية التاريخية والحديثة، فهي تتقلب في سياقات من التحول والتكيف مع ضرورات الوقائع المتغيرة، ولذلك يمكن القول إن الحركات السلفية الجهادية المعاصرة وفي مقدمها تنظيم «القاعدة» وفروعه تقلبت في مراحل عدة خلال تطورها بين الأجيال». وأضاف: «الجيل الأول الذي نشأ خلال حقبة الثمانينات من القرن المنصرم حصر (جهاد) المرأة في عمليات الإسناد وفي مقدمها التربية والإنجاب، وهو ما أكد عليه منظّر تلك المرحلة عبدالله عزام، وفي هذه المرحلة اقتصرت مشاركة المرأة على الدعم اللوجستي في الوقت الذي كانت المرأة جزءاً فاعلاً من مكون الحركات القومية واليسارية والوطنية الإسلامية، وهو أمر كانت تنكره الحركات السلفية الجهادية إذ لم يكن يسمح للمرأة بالعمل العسكري المباشر خلال حقبة ما يطلق عليه الجهاد الأفغاني». ولفت أبو هنية إلى أن بروز الجيل الثاني للحركات الإسلامية المسلحة في منتصف التسعينات وهو جيل من المنظرين أكثر تطرفاً في مشاركة المرأة في العمل العسكري أمثال أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني وغيرهم، وظهرت في الجبهات الساخنة إرهاصات مشاركة المرأة كما في الجزائر والشيشان، إذ بدأت بالظهور نماذج جديدة للمشاركة تبلورت بتأسيس «كتيبة الأرامل السود»، التي باشرت بتنفيذ عمليات انتحارية ضد الروس. وأضاف: «في هذه المرحلة طورت الحركات السلفية الإسلامية المسلحة أطروحتها الفكرية والفقهية حول جواز القيام بالعمليات الانتحارية، وكانت قبل ذلك لا تجيزها بل تحرمها وتنتقد من يتبناها من الحركات المسلحة الإسلامية الوطنية كحركتي حماس والجهاد في فلسطين، لذلك لا نجد استخداماً لهذا التكتيك إبان الجهاد الأفغاني». وأوضح أنه مع الجيل الثالث للحركات السلفية الجهادية نهاية التسعينات باتت العمليات الانتحارية التكتيك الرئيسي المستخدم، وكانت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 تتويجاً لهذه التطورات، وظهر جيل من القادة العسكريين لهذه الحركات باشر الدخول في مواجهة مسلحة مع «العدو القريب» المتمثل في دولهم و «العدو البعيد» المتمثل بالولايات المتحدة والغرب وإسرائيل، وجرت مشاركة المرأة في العمل العسكري المباشر وبرزت «الاستشهاديات» في الجبهات المفتوحة، مشيراً إلى أن أمير القاعدة في العراق أبو مصعب الزرقاوي أنشأ كتيبة «الاستشهاديات»، وتوسع في تنفيذ عمليات انتحارية بواسطة النساء، وأصبحت مسألة مشاركة المرأة في الأعمال القتالية المسلحة جزءاً من مكونات الحركات السلفية المسلحة، ومع ذلك لا يزال عدد من قيادات الجيل الأول يتحفظ عن مشاركة المرأة في الأعمال القتالية كأيمن الظواهري، إلا أن ذلك تجاوزته عملياً الأجيال الحالية، وباتت كتائب «الاستشهاديات» حاضرة وفاعلة في إطار الحركات الإسلامية المسلحة.