بالمفهوم المتعارف عليه، كانت للولايات المتحدة وإسرائيل مصلحة في استمرار نظام الرئيس حسني مبارك في مصر، ومن «عجائب» أو قل بساطة الثورة الشبابية أنها بددت قدرة هاتين الدولتين على تجنيب حليفهما سقوطاً لا بد من أن ينعكس عليهما في المديين القريب والأبعد. كانت إسرائيل مواكبة لما حصل داخل النظام المصري طوال الأسابيع الثلاثة لكنها ظلت بلا فاعلية، فمن تعتبرهم «أصدقاء» أو حتى مجرد محاورين غدوا مساء «جمعة الغضب» (28/1/2011) كمن تلقى الضربة ما قبل القاضية. أما الوضع بالنسبة الى الإدارة الأميركية فبدا مختلفاً تماماً، كانت تتابع بالوقت الطبيعي كل التطورات، وعندما شعرت بأن الدائرة الضيقة المحيطة بمبارك لم تعد متواصلة معها أو تخفي عنها سراً، أوفدت فرانك ويزنر الذي عاد باستخلاصات تتعلق ببزنسه الشخصي أكثر مما تهتم بتحليل دقيق للوقائع. ومع ذلك أخذت الإدارة بنصائحه، لكن بحذر، ونال النظام مباركة لخطته الانتقالية فبدأ الحوار مع القوى السياسية ليتبين أن الشارع كان تجاوز عملياً ذلك النظام وتلك القوى التي خشيت بدورها أن تُغضب شباب الثورة، ثم إنها أدركت أن النظام نفسه لا يملك صفقة يعرضها عليها. بين «ميدان التحرير» الذي أصبح مركز قوة والنظام الذي تأخر كالعادة في استجاباته، كان لا بد من التعويل على المؤسسة العسكرية التي تركت للنظام استهلاك كل الفرص المتاحة أمامه. لم يكن الجيش راغباً في التمثل بالخطوة التي أقدم عليها الجيش التونسي حيال زين العابدين بن علي، لكن بدايات العصيان المدني اضطرته الى حسم موقفه. كان المتظاهرون بدأوا يقتربون من الاستيلاء على مقار مجلس الوزراء ومجلسي الشعب والشورى وبعض المحافظات، بل انهم استعدوا للزحف الى مقر الرئاسة. كل المؤشرات أنذرت بأن التحرك السلمي قد يؤول الى مآسٍ دموية لن تنقذ النظام في أي حال. مساء 11/2/2011 أوحى الفرح الشعبي العارم في مجمل المنطقة للرئيس باراك أوباما أن يقول إن العالم يشهد واحدة من اللحظات التي تصنع التاريخ. للمرة الأولى استطاع هذا الرئيس الأميركي أن يقود ديبلوماسية تلتقي فيها رؤاه الشخصية مع الأساليب التقليدية المتبعة. كان جلياً أن واشنطن وإسرائيل ليستا على الموجة ذاتها، ففي الجانب الأميركي كان الاعتراف بالواقع والوقائع أقوى من التشبث بالمصلحة في بقاء مبارك في منصبه، بل كان هناك اعتراف بأن طبيعة التحرك الشعبي عطلت كل احتمالات التدخل من أجل نظام فقد قدرته الذاتية على الاستمرار. أما في الجانب الإسرائيلي فعدا الانتقادات الساخنة لأوباما وإدارته، ومديح «الاستقرار» الذي يعنيه نظام مبارك، كان هناك رفض وعدم تعاطف وتوجس حيال ثورة الشباب. وبعد إبداء القلق من نظام جديد على النمط الإيراني، أو من سيطرة «الإخوان المسلمين» على مصر، اضطرت إسرائيل في النهاية الى التقوقع في القلق على «معاهدة السلام» قبل أن ترحب بإعلان المجلس الأعلى للقوات المسلحة التزام كل المعاهدات. كان الأداء الإسرائيلي في هذه الأزمة قصير النظر وبعيداً عن الواقع. لا شك في أن الحفاظ على «معاهدة السلام» هو أيضاً من أهم مطالب الأميركيين، لكنهم في الوقت نفسه يضعون الديموقراطية والإصلاح وحقوق الإنسان في مصاف الأهداف الاستراتيجية بالنسبة الى العالم العربي. وبمعزل عن الطريقة اليائسة التي عملت بها إدارة جورج بوش الابن، فإن أوباما نفسه ضمن خطابه الشهير في جامعة القاهرة فقرة طويلة على هذه الاستحقاقات الضرورية، ثم أن وزيرة الخارجية هيلاري تحدثت عنها في مؤتمر في العاصمة القطرية بعد أيام من سقوط النظام التونسي وعشية الاحتجاجات المصرية. ولعل الأميركيين يدركون أن «المعاهدة» باتت جزءاً لا يتجزأ من السياسة المصرية، وإذا كان وارداً أن يطلب أي حكم ديموقراطي منتخب إجراء مراجعة لها، فإنه يصعب توقع إلغائها الذي سيعني عندئذ إجماعاً وطنياً على معاودة نهج الحرب ضد إسرائيل ويكون على المؤسسة العسكرية أن تمتثل. هذا الاستعداد المبكر الذي أبدته إدارة أوباما للتعايش مع التغيير في مصر، لا ينفي أن واشنطن ستعاني خلال الفترة الانتقالية، وقبل اتضاح توجهات الحكم المقبل، نوعاً من الفراغ الديبلوماسي في المنطقة. فمصر مبارح لم تكن الركن الأساسي في ما يعرف ب «معسكر الاعتدال» فحسب، وإنما كانت شريكاً رئيسياً في مداولات «عملية السلام» ومحاولات تحريكها. لكن المرحلة المقبلة تستدعي أيضاً مراجعة للديبلوماسية الأميركية في ضوء الثورة التي حصلت، لأنها انطوت على دلالات لا بد من أن تنعكس على خيارات الشعب في ظل الديموقراطية المنتظرة. كان مصريون من أعمار مختلفة ومن مشارب سياسية متنوعة يقولون إن كرامة مصر أهينت، وإن مكانتها ودورها ونفوذها الإقليمية تضاءلت، وإن «السلام» استغل لإضعاف مصر وإبعادها عن محيطها العربي وارتكاب حروب وجرائم باسمها وبموافقتها. لا بد أن هذا يعني على أقل تقدير أن أي ديبلوماسية في ظل نظام منتخب مدعوة الى وضع كل المآخذ في اعتبارها لتصحيح المفهوم الأصلي لهذا «السلام» بأنه يجب أن يكون خطوة رئيسية على طريق السلام الشامل، لا أن يقتصر على توفير الأمان لإسرائيل. هناك عبارة في مقال للكاتب الإسرائيلي ألوف بن تلخص ما يمكن اعتباره المسؤولية السلبية التي حملها نظام مبارك فساهمت في إيذائه ولم تسهم في «السلام». قال إن «قادة إسرائيل كانوا يعرفون أن الخاصرة اليسرى مؤمنة حين يذهبون الى الحرب أو يبنون مستوطنات أو يفاوضون على السلام على الجبهات الأخرى» (هآرتس 13/2/2011). قال أيضاً أن بنيامين نتانياهو أراد الحرب على إيران مستنداً خصوصاً الى تأييد لا يتزعزع من مبارك، ما يعني استطراداً أن هذه الحرب (الإسرائيلية) لم تعد واردة الآن. لعل هذا هو التحليل الأكثر دقة ل «الخسارة» التي تعرضت لها إسرائيل من جراء التغيير. إذ أن الاستمرار في الممارسات المتهورة نفسها، من دون التغطية المصرية، من دون مبارك، سيكون استدعاءً سافراً للعداء المصري واستفزازاً محرجاً للنظام المقبل حتى لو تمسك ب «المعاهدة» لأسباب تتعلق بالمصلحة المصرية البحتة. كان واضحاً أن إسرائيل تعاملت مع الحدث المصري باعتبارها على توافق تام مع النظام، وعلى عداء مؤكد مع الشعب. صحيح أنها لم تعد تخشى حروباً مع أي نظام عربي، إلا أنها اكتسبت عداء الشعوب بدل السلام. ويأتي ذلك في ظل تنافر فكري وحتى ايديولوجي بين حكومتها وإدارة أوباما التي برهنت مرتين في الأسابيع الأخيرة أنها لم تعد - كإسرائيل - تفضل الدكتاتوريات المستقرة بل تراهن على استقرار يأتي عبر الانتقال الى الديموقراطية. وعلى رغم أن موقف واشنطن لم يتبدل من ظاهرة «التطرف الإسلامي»، إلا أنها بدت أكثر واقعية حيال «ظهور الإخوان المسلمين» سواء في التظاهرات أو في الحوار المجهض مع نائب الرئيس المصري. ولهذا أسباب لا بد من تسجيلها، ف «الأخوان» لم يفجروا الثورة بل انخرطوا فيها مثلهم مثل معظم المصريين، ثم إن الأهداف الواعدة للتغيير تبدو الآن على الأقل كأنها أنهت ادعاء الإسلاميين بأنهم «البديل» الوحيد للأنظمة المتهادية. كما يؤمل، مع الوقت، بأن التغييرات المتوقعة عربياً يمكن أن تشكل البيئات المناسبة لذوبان «القاعدة» فيها شيئاً فشيئاً. ليس مؤكداً أن إسرائيل، بوجود الثلاثي نتانياهو وليبرمان وباراك، في قيادتها يمكن أن تراجع الإساءة التي ارتكبتها حيال مصر والسلام الذي وفّر لها ثلاثين عاماً من الاستقرار لكنها استخدمتها لقتل «السلام» وتمهيداً لبناء دولة عنصرية وعدوانية. هذا امتحان كبير للكذبة المسماة «ديموقرطية إسرائيل». في المقابل سيكبر الرهان العربي على «مصر الجديدة» لتصحيح المسار العربي، ليس بالحرب كما قد يتوقع البعض، وإنما ب «عدوى» الديموقراطية... كان بين ردود الفعل تعليق للتلفزيون السوري يقول إن مصر «عادت الى الصف العربي»، وليس مفهوماً أي صف عربي هو المقصود، فمصر هي التي اعتادت تاريخياً أن تحدد الاصطفاف العربي، ولعلها فعلت أخيراً عبر «ميدان التحرير». * كاتب وصحافي لبناني