حين ابتدأ القرن العشرون كانت له، في المشرق العربيّ الأكبر، بدايتان: في مصر، تأسّس «حزب الوفد» بزعامة سعد زغلول، مقلّداً «حزب المؤتمر» الهنديّ المؤسّس في 1885. و «الوفد» قاد ثورة 1919 الاستقلاليّة والمدنيّة بشعارات وطنيّة جامعة ك «تحيا مصر» و «الهلال والصليب» و «الدين لله والوطن للجميع». في المقابل، استقبل الشطر الآسيويّ من المشرق العربيّ القرن العشرين على نحو مختلف تماماً. فالردود على الانتدابين الفرنسيّ والبريطانيّ تلوّنت بألوان طائفيّة ومذهبيّة حادّة: «ثورة العشرين» في العراق كانت شيعيّة، وكذلك حركات «العصابات» في الجنوب اللبنانيّ، وانتفاضتا سلطان باشا الأطرش وصالح العلي في سورية كانتا درزيّة وعلويّة. ولئن استهدف الأطرش و «العصابات» المسيحيّين في حوران وجنوب لبنان، فقد استهدف العلي الاسماعيليّين في قضاء المرقب السوريّ. هكذا جاءت «ثورات» المشرق الآسيويّ توكيداً لهويّات تجمّعيّة في مواجهة هويّات تجمّعيّة أخرى. وفي الطور اللاحق، التالي على الحرب العالميّة الثانية، تكرّر الانشقاق بأسماء وعناوين أخرى: في مصر، نشأت الناصريّة التي اكتشفت «العروبة»، أواسط الخمسينات، من طريق استراتيجيّ وجيوبوليتيكيّ، فأكّدت الشعارات التي مثّلت المزاج العالمثالثيّ يومذاك: التنمية المستقلّة، العدالة الاجتماعيّة، الحياد الإيجابيّ... أمّا الشطر الآسيويّ فركّزت أطرافه التي عادلت الناصريّة، وأهمّها حزب البعث، على الإنشائيّات والخطابة التي غطّت على ضعف الأنسجة الوطنيّة والمجتمعيّة لبلدانها. هكذا نهضت «الرسالة الخالدة» والتذكير بقحطان وعدنان، فضلاً عن «الثأر» الذي بثّته المأساة الفلسطينيّة في جسم الفكر السياسيّ السائد. بلغة أخرى، كانت الدولة والمجتمع، المحكومَين ديكتاتوريّاً، نطاقي الخطاب والتصرّف الناصريّين. أمّا في الشطر الآسيويّ، فكانت البداوة المُحدَثة عمق المخيّلة البعثيّة والقوميّة العربيّة عموماً. هكذا حاولت اللغة المنتفخة التعويض عن الواقع المجوّف، بقدر ما حاولت الدعوة إلى وحدة عربيّة بسيطة ستر التفتّت المستشري. في هذه الغضون، وقبل «ثورة يوليو» 1952، جدّت واقعة فكريّة ذات دلالات بعيدة: فحين زار ساطع الحصريّ، كبير المثقّفين القوميّين للمشارقة الآسيويّين، كبار مثقّفي مصر، كان تلاقيهم أشبه بحوار طرشان. ومن القاهرة عاد الحصريّ، السوريّ-العراقيّ، بخيبة أمل عريضة. تُستعاد هذه الفصول للتنبيه إلى خطأ التسرّع في صبغ مصر بصبغة المشرق الآسيويّ. فهذه، في أغلب الظنّ، محاولة تبسيطيّة و»سياسويّة» تنأى بنفسها عن تعقّل الصلب المجتمعيّ. وأصحاب المحاولة قد يكون هدفهم منع كلّ تغيير في المشرق الآسيويّ، ولهذا نراهم يذهبون بعيداً في توكيد الجامع المشترك المتمثّل في الجانب الثانويّ من الثورة المصريّة، أي اصطدامها بنظام «حليف لأميركا». لكنّ المحاولة ذاتها تصدر، في صيغة معكوسة، عن بيئات أخرى، بيئاتٍ تتلهّف إلى التغيير وتناضل من أجله وتستحقّه كما تستحقّه بلدانها. لكنّ طلب التغيير، في المشرق الآسيويّ، قد لا يقع للأسف، وإذا ما وقع، فالمرجّح ألاّ يكون من طينة مصريّة. شيء واحد يتيح انقلاب اليأس أملاً، هو أن ينجح العراقيّون واللبنانيّون في البرهنة على أنّهم شعبان ووطنان. والعراقيّون واللبنانيّون، للأسف مرّة أخرى، كسالى في هذا الامتحان الذي عبره المصريّون بعلامات تفوّق وامتياز.