لنقل، مثلاً، إن الجسد المحشور في الملابس الصغيرة والملون وجهه بألوان صارت ضرورية، تكوم فوق السرير العريض وغاب عن شكل الحجرة منذ الخامسة مساءً وحتى الثامنة والنصف من صباح اليوم التالي وصاحبته لم تكتشف تأويل ما رأت إلا حين حكت لصاحبتها البيضاء عن الماء الذي تمشي فوقه والذي يدخل لها من الشرفات. وصاحبتها مرت بعيونها الراقية في المسافة ما بين رأسيهما، وبصت بصة لا معنى لها، ثم غابت بعد أن رددت كلامها الذي يخص النصيب الآتي وراحة البال التي تساوي الكنوز. لنقل أيضاً إنها حين سكبت الماء المغلي من إناء الألومنيوم على أصابعها كانت تتوقع أن تنزل منه البيضة المسلوقة كي تفطر، فكان أن نزل الماء أولاً فسلخ جلدها ودبدبت بقدميها على البلاط وقالت آه، وبيدها الأخرى انتشلت البيضة المهشمة الحوض وتركت الماء البارد ينزل على أصابعها المحمرة وهي تفكر في ما لو كان هذا عقاباً ما على ذنب عبر. وكأن يكون النهار ثقيلاً في ثقل خطوتها وجسدها المحشور في ملابس أختها الصغرى وفي حذائها الذي تمشي به ببطء الأوّزات فوق بلاط حجرة المدير، ذلك الذي يرفع نظارته المقعرة فتبدو عيناه وفوقهما حاجباه الكثيفان، ليضع نظارة أخرى وينادي عليها حين تصل إلى باب الحجرة - دائماً ينادي حين تصل إلى باب الحجرة - فتشدّ وجهها بابتسامة وتعود مثل جوال من القطن المبلل، وهو يطلب منها أن تجلس في المقعد المواجه إلى أن يتذكر ما كان يريده منها. لنقل إن ذنوبها صغيرة وأن الماء في الأحلام ليس بالضرورة حزناً آتياً، وأن الخوض فيه ليس معناه الألم العميق، لنقل إن «الخضر» حين قتل الولد الصغير لم يفعل ذلك إلا كي يهب الله لأبويه أطفالاً أجمل وأن الذي رفرف معها ذات ليلة وزحام وشجارات وصمت وضجيج وارتعاش، والذي دندن بجوار أذنها وتكلم بحرية وبخوف، لنقل إنه لم يكن «نفساً زكية»، بل كان ألماً وحسب. لنقل إن صاحبتها البيضاء عبرت الثامنة والثلاثين من عمرها من دون أن يطوق خصرها أحد، ومن دون أن ينقطع حيضها وينتفخ البطن، وإن وجهها صاف ومسالم وجميل حتى التجاعيد تقترب منه بهمس وشعرها الأصفر الناعم صار يخفي بين خصلاته شعرات كثيرة في طريقها إلى الأبيض. لنقل إن هذه البنت رفعت وجهها الأبيض الصافي، ذات مرة، فبدت عيناها مثل غيمة فوق زجاج وموج حافته حمراء قليلاً، وصوتها خرج مثل صوت طفل ضُرب لسبب تافه. هزت رأسها، وقالت كلاماً له علاقة بيومها الذي يبدأ برائحة عرق وانتفاخ مريب في الجفنين. لنقل أيضاً إن أم الولد الذي قتله «الخضر» لم تعترض في شكل ما حين مرت عليها ساعات النهار الأولى من دون وجود الولد، فقط نامت وشافت نفسها تغوص في ماء صاف عميق، وحين حكت لزوجها الصالح قال إنه ليل يمر. لنقل إن البنت التي تحشر الآن جسدها في الملابس الصغيرة وتملأ وجهها بالمساحيق وترفع شعرها إلى أعلى بعد أن ترصّه بالزيت، لنقل إنها لم َتحْكِ لصاحبتها البيضاء عن الولد الذي سألته ذات مرة إن كان يحب رائحة الماء، ساعتها كانا جالسين في الهواء وبينهما حجر مشطوف وكوب واحد من الشاي وبجوارهما مراكب صغيرة ونهر. وأنه أغمض عينيه طويلاً حتى حسبت أنه غفا وحين فتحهما أخبرها أنه يستشعر قصراً في عمر، ربما عمره، ربما عمرها، وهي سمعت دقة بداخلها وقالت في سرها: «يا عبيط، بل نحن نفترق». لنقل إنها لو أغمضت عينيها قبل سنوات خمس وشاهدت رخام أرضية حجرة المدير ونظارته المقعرة، وشكل جسدها المحشور في ملابس أختها الصغرى وشعرها المرصوص بلزوجة وزميلاتها يمشين كالأوّزات والبنت البيضاء التي تنظر نظرات بلا معنى وتكلمها عن النصيب الآتي وراحة البال التي تساوي الكنوز، والنار التي تنزل على جلد أصابعها والدخان الذي أطفأه الماء ودبدبة قدميها وقولها آه... لنقل إنها كانت ستغمض عينيها في الخامسة مساء وستمشي فوق الماء مثل فلوكة إلى أن يعلو الموج ويغمر أذنيها ويدخل لها من الشرفات، وفي الثامنة صباحاً ستختزل قوتها الباقية وستحرك رأسها يميناً ويساراً لتبدو جدران الغرفة وحافة السرير، ومن زجاج الشباك المغلق ستعرف أن النهار قد طلع.